د. محمد بدوي مصطفى

إننا لا نحتاج إلا لإنسانيتنا بينكم!

“الطواحين تدور .. تدور والهواء لا زال رخياً .. يحطم الصمت المطبق ويقود ثورة علي القنوط، الحجارة يحرك بعضها بعضاً والنساء جميعهن يركن إلي الفضاء … وهي في هيكل الحجرة تصلي ..!! شمعية الاشياء …، شمعية الملامح والتفاصيل …، مثلها والطواحين ومزبلة الهواء الرخو …!، أحست يوما بالألم النازح مثل بشارة غريبة … علي تل الأحزان …، فاكفهرت البيوت واحتست القتامة بين شروع الشمس واندلاق القمر …!!”
بينما وأنا أتصفح الجديد من الأحداث بين دفتيّ الفيسبوك يقع ناظريّ على رسالة من أستاذي عزالدين ميرغني، يقول فيها: “من أجمل المجموعات القصصية التي قرأتها في حياتي هي مجموعة “البحر يرقص لغناء الصراصير” (العنوان الأول) للقاصّة التشكيلية السودانية إيثار يوسف. تطربك اللغة، ويسوح بك المعنى العميق والمعرفة بفن اقتناص اللحظة الإنسانية. هل تصدقوا بأنها لم تستطع نشرها حتى الآن؟!!”
حقيقة يا سادتي، أنني بعد قراءة أسطر أستاذي، رعاه الله، أحسست بشئ مثل الهزيمة كنت أحسه عند بدياتي في الكتابة. كيف لا وأطفال أحملهم دون أن يروا النور. كان شعوري في تلك اللحظة بيّن تجاه إيثار وعملها الأدبيّ أو قل طفلها الوليد. شعرت بادئ ذي بدأ بأن من يحمل اسم كهذا لابد أن يكون مبدعا بالأساس، فنحن نولد أغلب الظن بصحائفنا التي لا تفتأ تزايلنا طوال العمر! سيما وأن للاسم وقع كالقيثارة. على كل، هممت في التوّ لا ألوي على شئ إلا وأن اراسلها. إيثار مبدعة، بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان. حباها الله بقيثارة الكلمات فأنت لا تفتأ في أن تبدأ قصة مجموعتها (قيامة الشجر) إلا وتهيم في سردها البديع وتؤثرك موسيقاها الحالمة. كلماتها ذات نغم آخاذ ورنينها الايقاعيّ يدور بك كدوران دراويش الصوفية يسمو بك إلى آفاق بعيدة. هاهنا يسوقك قلمها إلى آماكن لم تخلق إلا لسردها، يطوف بك ويرجعك إليها دون أن تحس باللحظة. حبا الله إيثار بقوس كمان الفن التشكيليّ. لوحاتها سمفونيات عميقة، كونشيرتوهات ثائرة في هدوئ المتصوف، أوبرا عايديّة (أوبرا عايدة: تم اكتشاف مخطوطاتها من قبل عالم الآثار الفرنسيّ أوجست ماريتا في وادي النيل) فاضحة لبعض ملامح المجتمع الذي نعيش فيه، لكن في رزانة واتقان. سطّر قلمي لها رسالة سريعة استسمحتها في ارسال المخطوطة. فما كان منها إلا أن وافتني بالمطلوب. ومن تلك اللحظة أنطلقت أقلامنا في تبادل وثيق وهانحنذا في خلال بضع أيام عجاف نخطط لنشر مجموعتها القصصية (قيامة الشجر) بلوحة من ريشتها المرهفة. تحكي في كتابتها لي عن نفسها قائلة:
“أهلي من قبيلة المحس. أصولنا من جزيرة بدين من أسرة عادية وبسيطة. أنا البنت الثالثة. لي ثلاثة إخوان وثلاث أخوات.أصبت بحمى عالية، أتلفت العصب السمعي وأنا حينها في سنة ثانية جامعة بكلية الفنون الجميلة. أعمل الآن في مؤسسة تعليم الصمّ بوزارة التربية والتعليم، أجيد لغة الإشارة. ناشطة في عدة مؤسسات للعمل الطوعي والإنساني، شاركت في العديد من المؤتمرات والورش والمناظرات بأوراق عمل في مجال الإعاقة السمعية.”
ليس من السهل يا سادتي أن تُوهب لأحدنا الفنون مجملة وتسقى جُلّها في كأس دهاق: الأدب، الشعر، الفن التشكيليّ، الاحساس الموسيقيّ العالي، اللغات، الخط، وما خُفيّ أعظم!!
تذكرني حياة إيثار بسيرة الموسيقار بيتهوفن وبسمفونيته الخامسة: “ضربة القدر”. كُتب عنها أنها أجمل سمفونياته ويعتبرها النقاد أجمل لحن في تاريخ البشرية. في هذه المرحلة، وفي الفترة القريبة من توقيت إنجاز السيمفونية، بدأ بيتهوفن يعاني ضعفاً متسارعاً في حاسة السمع، ويرجح البعض أن حالة الضعف هذه ساهمت في تأجيج ألحان سيمفونيته. وهكذا إيثار فإن أعمالها التي كتبت بعد هذه الفترة تأججت وتبلورت إلى إبداع يتفتق في كل مجال تطرق أبوابه وفوق هذا وذاك بحاسة سادسة. تقول: ” أعلم سلفا، عندما يريد أحد أن يخاطبني، برسالته لي وبما يريد أن يسرده، حتى وقبل أن تفتر شفتاه متفوّهتان بالكلم.” إنها يا سادتي البصيرة والاستبصار. هناك تعويض ربانيّ يحدث للإنسان كهبة من الخالق. فأي شخص قد فقد حاسة يهبه الله حواسّ تعويضيّة. فالإعاقة السمعية أشدّ وطأة على النفس من أي شئ آخر. تجعلك في عزلة ووحدة اللهم إلا من كتاب أو قلم: شئ مؤلم أن تكون بين أحبابك وأقرب المقربين إلى نفسك وأنت لا تدري ما يقولون!” لكنك تحسهم في أعماق القلب. ينزل الفرد ممن اصطفاهم الله لهذه المهمة داخل روحه (يسمى بالفرنسيّة: انتروسبكسيون). يبدأ رحلة البحث والتنقيب عن الأحساسيس والذكريات التي تجوش بها دواخله. فتكون الحصالة أو قل الفريسة أمورا لم يكن يضع لها أدنى حساب. حياة الوحدة تجعل الفرد من المصطفين عميق، مرهف، حسّاس، دقيق ومبدع ورؤيته للدنيا مختلفة.” فكتاب “الأيام” لطه حسين هو المثال الحيّ لذلك.
إيثار هي عند الحديث معها مدرسة في فكرها وهضمها لأحداث الساعة. يمكن أن نسمح لأنفسنا بأن نطلق عليها: الفلسفة الإيثاريّة. فهذه الأخيرة مفعمة بسناريو درامي من أوجاع وآلام متجددة بتجدد افراد المجتمع الذين من حولها من أولئك الذين يجهلونها أو يتجاهلونها كإنسانة لها الحق في الاحترام والتبجيل. تسكن هذه الأوجاع المتجددة في دواخلها، رابضة بها ولا تفارقها، إذ إنها تتجدد يوم تلو الآخر، بتجدد النظرة الدونية المنبثقة من أولئك الذين يعتقدون في قرارة نفسهم أنهم أصحاء وهي لا. تقول: “أن تكون مميزا … انظر لما حباك الله به من نعم، ليس إلى ما أخذه منك!”
نحن البشر تميزنا أغلب الظن انسانيتنا، ألبابنا وعقلنا المبدع. وعبر هذه النعم تتمخض في ادراكنا لماهيات الحقائق التي من حولنا. نعم، هذا ما يميّز ابن ادم عن كل مخلوقات الكون (أفلا تتفكرون).
ماذا يعني أن يفقد المرء إحدى حواسه؟
هذا يقتضي من منطلق اعتقاد العامة الشعبيّ أنه غير مكتمل أعني ناقص بسميائيّة الكلمة السلبية. ويترتب عليه أنه مسكين، يحتاج لمن يأخذ بيده، وهناك ممن يعتقد اعتقادا راسخا أنه عالة على المجتمع. ونحن نعلم ما أصاب ذوي الاحتياجات الخاصة من ظلم وجور أثناء الحروب عامة والحرب العالمية الثانية خاصة، سيما في غضون الدولة النازية؛ فقد وصلت الحال بهم أن يصلوا نار المحرقة، فاحترقت الملايين منهم دون أدنى ذنب يجنوه.
نتساءل في بعض الأحيان: لماذا تشوب نظراتنا حمق الدونيّة والشفقة تجاه كل من له اعاقة؟ لماذا لا نأخذهم بعين الاعتبار أو قل نهمشهم؟ أنحسب أنهم صم بكم عميّ فهم لا يعمهون؟
فمن منَّا يا سادتي يعي ويعلم أن الله لا يأخذ نعمة أو خير بيد إلا ويعطي ويغدق بالأخرى. فالإعاقة قيد دون رتوش وتجميل لها لكن دون أبوابها كنوز ودرر لا يعلم سرّها إلا من طرق أبوابها. والطارق وما أدراك ما الطارق، النجم الثاقب الذي يستعصم بالبعد عنّا لكن نوره يصل إلينا من على بعد ملايين السنين الضوئية. ويراه فقط من اصطفاه الله كإيثار، فهل لنا في ذلك من عبر؟!
تتبدى منها نظرة صائبة وسائلة: أسألك لماذا تنظر إليّ بهذه النظرة الدونية يا أخي؟ ألانني معاقة؟ لا أراك، لكن أراك؟! لا أسمعك، لكني أسمعكُ؟! لا أشتم رائحتك، لكنها في نفسي في حيز الزمان والمكان! قرنا استشعاري لا تراها أنت! ألانك معاق، أو قل لا تبصر أو تستبصر؟ رغم أنك صحيح كما تحسب؟!
نظرتك هذه تحطم أشرعتي وتطفئ عزيمتي التي تتجدد بتوالي ابتهالاتي. أتعلم يا سيدي أن الصمت حولي جدار يجعلني أنطلق في سفر أو قل في رحلة حتى إلا ما وراء الطبيعة وإلى ما وراء المجرات، أسبح حالمة بين الكيون، تلسعني شموسها بلهيب الحبّ وتشعل في دواخلي يقين لا يتزعزع وتضرم فيها عزيمة لا تضاهيها عزائم الخلق ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. نعم، قدري ينوء بحمله ذوو العصبة أولوا القوة ورغم ذلك فيقيني أقرب إليّ من حبل الوريد. دعني أريك كيف أبصر وأستبصر وأرى وأسمع ما لا تسمعه: موسيقى الكون، نداء الطبيعة وبكاء البحار المترامية. أقول إحساسي كما يترجمه الطيب صالح في موسم هجرتي، حينما جاء من غربته الصماء ليجد النخلة السامقة لا تزال باسقة في فناء منزلهم (مع بعض التعديل): “أرخيت أذنيّ للدنيا، ذاك لعمري صوت أعرفه، له في بلادنا وشوشة مرحة، موسيقى الكون وهي تداعب نخيلات قريتي، غيره وهي تمر بقلوب البشر الجائرة. أسمع هديل القمري، أقتفي نداء البلابل واستشفّ رحيق الأزهار ولونها البهيّ. أنظر كل يوم خلال النافذة إلى النخلة القائمة في فناء دارنا فأعلم أن الحياة لا تزال بخير”.
نعم، أنت لا تعلم، يا سيدي، أنني انصت لموسيقي الكون، فقد وهبني الرب نفحة منه لأسمع لحن الحياة في كل لمحة ونفس. وعن حقيقة ليس تدجيلا ما اقول: حواسنا مركزها الروح وليس الاعضاء، فإن سَمِعَتْ روحي ستسمع اذنيّ، وإن رأى قلبي سترى عينيّ، فأمورنا نحن ممن اصطفى الله تسير على هذا المنوال. من ثمّة فإن قيدي افكه بعزيمتي، عجزي ونقصي ليس مني بل ممن حولي، اذا لي الحق في أن أنطلق وأحلق كيف أشاء، أن أمتلك ما أنشده واصبو إليه بكلمة الله، فليذهب الذين يروننا كقردة سيرك إلى جحيمهم السرمديّ. فنحن بشر لا ينقصنا شيء بنقص حاسة. اعلموا أننا لا نحتاج إلا لإنسانيتنا بينكم.

بقلم: د. محمد بدوي مصطفى
أستاذ اللسانيات (جامعة كونستانس – ألمانيا)
mohamed@badawi.de