لم نتجاوز الحقيقة عندما قلنا إن المؤتمر الوطني اعتقل والدته الرؤوم (الحركة الاسلامية) رغم أنها سلمته على طبق من ذهب سلطة كاملة مبرأة من كل عيب في عقوق ربما لم يشهد التاريخ له مثيلا .
اقتنعنا باجتهاد كان قد سوقه شيخ الترابي بأن تتنازل الحركة لجناح سياسي أنشأته ومنحته اسم (المؤتمر الوطني) ليعبر عنها ويخوض بالنيابة عنها في معترك الحياة السياسية مستقطباً أكبر كم متاح من شعب السودان المؤيد لطرحها السياسي حتى ولو لم يكن ملتزما بمرجعيتها الفكرية وذلك لكي يستقوي به على مجابهة التحديات الوطنية المتعاظمة ومقارعة القوى السياسية الأخرى.
لم يكن متخيلاً أن يتمرد الابن العاق (المؤتمر الوطني) وينسلخ عن المرجعية الفكرية لأمه (الحركة الإسلامية) التي انهارت فيما بعد كما سأوضح والتي ما نشأت أول مرة وما بذلت التضحيات الجسام وما أقدمت على انقلابها العسكري (مضطرة) إلا من أجل إعلاء مرجعيتها الفكرية وإقامة مشروعها النهضوي وكان ذلك دأبها وهدفها الاستراتيجي على امتداد فترات الحكم الوطني مدنية وعسكرية ولكن!.
كانت الحركة متقدمة على كل نظيراتها من الحركات الإسلامية في شتى أنحاء العالم الإسلامي وكانت تقدم المثال الفكري والسياسي للحركات الأخرى التي اتخذتها مثالاً متقدماً يحتذى سواء من خلال الاجتهادات التي قدمها شيخها الترابي الذي احتل خلال العقود السابقة لقيام الإنقاذ مكانة فكرية بارزة على مستوى العالم الاسلامي بل والعالم أجمع سيما وأنه كان يقدم من خلال الأداء السياسي للحركة الإسلامية السودانية المثال العملي المجسد للطرح الفكري الذي كان يقدم في شكل كتابات ومحاضرات.
ينتابني شعور قوي أن الاستخبارات العالمية لعبت دوراً كبيراً في تحطيم ذلك المثال الناصع للحركة الإسلامية السودانية من خلال ما جرى في السودان بعد انقلاب الإنقاذ من ردة كارثية أحالت ذلك المثال الرائع إلى تجربة بائسة جسدت أبشع أنواع الفشل لمشروع إسلامي كان دعاة الإسلام في كل مكان يعولون عليه لتقديم الإسلام في شكل حضاري يلهم الآخرين لكي يحذو حذوه ويقتفوا أثره ويترسموا خطاه.
أولى خطوات تشويه المثال كانت إقدام الحركة على اختيار الإنقلاب العسكري وسيلة للتغيير في غفلة وسذاجة كبرى جعلتها تتوهم أن الولاء الفكري التنظيمي يمكن أن يسود على الإنتماءين الآخرين الشخصي والعسكري في تجاهل مريع للتأثير الهائل للتربية والتدريب العسكري في صياغة الشخصية والذي يجردها من كثير من صفات الشخصية (الملكية) التي تصور باعتبارها كائناً ناقصاً إلى أن يقوم بالتدريب العسكري.
ذلك كان أكبر الأخطاء التي سيقت إليها الحركة الإسلامية بحجج واهية ظل الترابي يرددها مستعيناً بما حدث من إقصاء للإسلاميين في دول أخرى حين جاؤوا إلى الحكم عن طريق الديمقراطية.
لا أشك مطلقاً أن الحركة الإسلامية بقيادة الترابي كانت عاقدة العزم على أن ترد الأمر إلى الشعب من خلال الخيار الديمقراطي وما جاءت المفاصلة إلا نتيجة لخلاف بدأ منذ سنوات الأنقاذ الأولى بين الحركة الإسلامية وتنظيمها العسكري الذي توهمت أن ولاءه المحروس بقسم مغلظ سيعصمه من التمرد عليها ولكن!
لا أبرئ بعض قيادات الحركة الإسلامية الذين منحوا العسكريين المشروعية التنظيمية التي قادوا بها تمردهم ولولاهم لما أقدم التنظيم العسكري على ذلك الانقلاب.
لذلك فإنني أعلنها بكل صراحة أن الكارثة الكبرى التي حاقت بتجربة الحركة الإسلامية تتمثل في مذكرة العشرة التي لا أدري حتى الآن ما إذا كانت بفعل فاعل خارجي ، درى منفذوها أم لم يدروا ، أم إنها داخلية صرفة؟
لولا المفاصلة التي أدت إلى الاستقواء بقوى أخرى لا علاقة لها بالمشروع الإسلامي عوضاً عن أهل المشروع الذين أصبحوا حرباً عليه بعد أن كانوا خاصته وقادته لكان الحال غير الحال ولما استطال ليل الطغيان .