اعترف بأنني أعاني من آفة النسيان، مما جعل زوجتي تتهمني بالخرف كلما فشلت في العثور على شيء ما أو أنكرت مسؤوليتي عن فقدان شيء ما، وجميع الرجال المتزوجين يعانون من ان زوجاتهم يتنصلن من مسؤولية ضياع أي شيء في البيت، وهناك الطرفة القديمة عن زوجين كانا يستمعان إلى خطيب عربي وعندما تساءل الخطيب: من الذي أضاع الأندلس؟ التفتت الزوجة بخبث نحو زوجها وقالت له بكل رقة: أكيد أنت!!
وبلغ بي الأمر أنني «تعقدت» وصرت كلما ضاع مني شيء أو فشلت في العثور على شيء مثل المفتاح أو النظارة لا أشكو ولا اسأل من حولي عنه، كي لا «أجيب لنفسي الكلام» والشبهات الجائرة، وبما أنني أعرف ان النسيان والخرف من أعراض متلازمة الزهايمر فقد لجأت إلى مستشاري السيد غوغل في الإنترنت، الذي أوصلني إلى مواقع طريفة وحلوة للمصابين بداء النسيان، ومن بينهم جرسون متمرس في مطعم شهير في أمريكا جلس فيه رجل وزوجته، وطلبا مع الطعام كوبين من الماء، وجاء الجرسون بالماء من دون ان يأتي بالكوبين، وصب الماء في «الفراغ» فانسكب على ملابس الزوجة فجن جنونها، وبعد الاعتذارات جاءهما الطعام.
كانا قد طلبا شرائح من لحم البقر ولكن صاحبنا وضع أمامهما بطة كاملة، وهاجت الزوجة فكان لا بدَّ من اعتذارات جديدة، ثم دفعت الزوجة قيمة الطعام وقدمت للجرسون ورقة فئة المائة دولار بعد ان ابلغته بأنها لن تعطيه أي بقشيش، ورد لها الجرسون «الباقي» وإذا بتلك السيدة تقدم له 40 دولارا بقشيشا، ذلك ان صاحبنا أعاد اليها 420 دولارا، وهكذا وجدت تلك المرأة نفسها مستفيدة من معاناة الجرسون من النسيان، وطلعت ربحانة من الوجبة أكثر من 300 دولار زائد الوجبة نفسها (لا تقل حرام، فالخواجات مثل الوِرد «الأسد» الذي قال عنه المتنبي: في وحدة الرهبان إلا أنه / لا يعرف التحريم والتحليلا).
المهم ان السيد غوغل أوصلني إلى البروفيسور جورج غروسنبيرغ اخصائي متلازمة الزهايمر وأمراض الشيخوخة في كلية الطب بجامعة سنت لويس الأمريكية، الذي طمأنني قائلا: ولا يهمك مستر جافر أباس، لأنه طالما ان المعلومة تضيع منك ولكنك تتذكرها بعد نحو نصف ساعة، أو يبتسم شخص في وجهك بمودة ولا تبادله الابتسام ثم تتذكر لاحقا انه صاحبك الذي كنت في بيته الاسبوع الماضي بمناسبة زواج ابنه. مثل هذا النسيان لا يثير القلق.. ولكن غروسنبيرغ يضيف: إذا كانت المعلومة ذات أهمية عالية.. مثل اسم زوجتك أو تتعلق بجانب مهم من عملك وعجزت عن تذكرها فعليك بالطبيب.
ما يطمئنني بشأن قواي العقلية وذاكرتي هو انني أعرف ان حالة النسيان التي أعاني منها منشؤها ان عقلي شغال مثل المروحة، ولا يكاد يرتاح إلا عند النوم، وحتى عند النوم قد تداهمني أحلام تتعلق بأمور كنت أفكر فيها خلال ساعات اليقظة، ولا أعني بذلك انني عبقري (فهذه مسألة محسومة ومتفق عليها)، وأفكر في أمور فيها خلاص البشرية، وتحرير فلسطين، ولكن أعني أن دماغي صار يعاني من الحمولة الزائدة: أسماء مئات الناس والأماكن.. عواصم بلدان مثل نيبال وزفتستان.. وأسماء الشوارع والمحلات التجارية.. وهذا المقال الذي تقرؤونه الآن.. ما بادلت أحدا الحديث أو قرأت كتابا أو مجلة أو شاهدت أمرا في التلفزيون إلا وفكرت في الاستفادة منه في مقالي اليومي هذا. ولكن المصيبة هي انني عندما أجلس لأكتب المقال لا أذكر في غالب الأحوال أيا من تلك المواضيع التي خطرت ببالي وقلَّبتها في دماغي.
jafabbas19@gmail.com