وردي.. (المغنواتي) الذي علمهم السياسة!

كثيرون وصفوا تغنيه لكل الأنظمة بالكبوة أو السقطة، بينما يرى آخرون أن تبدله السريع ما هو إلا نتاج لعشقه الفطري كفنان لفعل التغيير، وتحليقه في سماوات الحلم الجميل بسودان فسيح ومريح، ما يجعل تركيزه على السياسة ضعيفاً في مقابل نتائجها على أرض الواقع والشارع العام، وبالتالي فعدم حدوث تغيير في الشارع العام وحياة الشعب يجعله يكفر بالنظام الموجود حتى لو تغنى له بدون حياء، ورغم ذلك ظل يوصف بأنه شيوعي وينتمي لليسار، لكنه في خضم ذلك إلتزم الصمت، وهو ما فسره مريدو اليسار ومنتسبوه بموافقة ضمنية من فنان إفريقيا الأول، بينما رأى في صمته رافضو السياسة وكارهو اليسار نفياً مهذباً من رجل مهنته العزف على أوتار المشاعر الإنسانية بعدم إيذائها.
وحينما عاد وردي من منفاه الإختياري في العام 2003م، بعد (13) عام قضاها خارج البلاد، تفاجأ برحابة الإستقبال من الرئيس البشير، ووزير الدفاع حينها عبد الرحيم محمد حسين، وقيادات أخرى في الدولة والحزب الحاكم، فعلق موسيقار وادي عبقر على هذا الترحاب بطريقة لاذعة قائلاً: «أنا لو أعرف أن قيادات الحكومة يحبون الغناء هكذا لعدت من زمان»، لكن في الواقع ليس قادة «الإنقاذ» وحدهم مَن يحبون وردي، فهناك القادة الشيوعيون والاتحاديون، وغيرهم من الذين اختلفوا في كثير من القضايا، إلاّ أنّهم – وعلى اختلافهم – اتفقوا على وردي لأنه لم يكن مطرباً فقط، بل كان صاحب فكرة ومشروع، حتى إن كلمات إحدى أغنياته، لامست أذني رجل الدين الشيخ الراحل أبو زيد محمد حمزة الرئيس السابق لجماعة أنصار السنة المحمدية، فعلّق ذات مرة في برنامج «أسماء في حياتنا» الذي يقدمه عمر الجزلي بالتلفزيون القومي، على أغنية «المستحيل» ورغم موقفهم الرافض للموسيقى والمعازف، فقد اعتبرها الهدية وقتها من الأغاني التي تحمل في جوفها قدراً لافتاً من التوحيد والتسليم بالقضاء والقدر، خصوصاً في المقطع الذي يقول: «لو بإيدي كنت طَوّعت الليالي».
وثمة علاقة ربما يكون فيها شيء من الخصوصية، بين الرئيس البشير والفنان وردي وأغانيه، بالرغم من مجاهرة الأخير بالعداء لحكومة الإنقاذ منذ مجيئها، لكن وبرغم هذا الموقف العدائي تعدت العلاقة بين الفنان محمد وردي والرئيس البشير من مجرد الإستماع، إلى الغناء معه في جلسة خاصة بالخرطوم، بعد عودته من غربته الاختيارية، وتجلى هذا العشق في زيارة الرئيس لفنانه المفضل، وهو طريح الفراش بالمستشفى قبيل وفاته، كما كان حاضراً في الصلاة على جثمانه والوقوف على مواراته الثرى بمقابر فاروق بالخرطوم.
يبدو أن عدم القدرة على ضبط وتحديد انتماء وردي يلج من باب تغنيه للجميع باستثناء الإنقاذ، فتغني لحكومة عبود وهي لا تزال في المهد صبياً (في نوفمبر هب الشعب، طرد جلاده)، بيد أنه عاد طبقاً لسيرته ونفض يديه عن عبود إبان بيع وادي حلفا وتهجير أهلها، لينشط في التظاهرات ضدها حتى تم اعتقاله، ليخرج من المعتقل على أعتاب أكتوبر منظماً، وإن لم يتم تحديد الجهة التي نظم بها أو فيها، وفي أكتوبر 1964م ربما كانت جائزة الفنان الثائر فتغني لها وردي فكانت (أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باقِ)، لكنه عاد ونفض يده من أكتوبر متغنياً لمايو 1969م، الأمر الذي يفسره بعضهم باستحكام نفسية الفنان ونظرته للأمور على سلوك وردي، مستبعدين انحيازه للانقلابات أو الحكومات العسكرية، لكن راصدين لمسيرته سجلوا أن ميوله اليسارية وجنوحه الاشتراكي هو ما دفعه للتخلي عن الحكومة الديمقراطية والتغني لمايو ذات الطابع الاشتراكي فغنى (كنا زمن نفتش ليك وجيتنا الليلة كايسنا.. يا حارسنا وفارسنا يا بيتنا ومدارسنا)، بيد أن وردي سرعان ما إرتد على عقبيه عن دعم مايو متسقاً مع خط الحزب الشيوعي وإنقلابه المعروف عام 1971م بقيادة هاشم العطا على النميري بسبب انقلابه على الحزب وتردده في تبني النهج الاشتراكي الصارخ، فتغنى قبل إكتمال اليوم الثالث للانقلاب (نهدم سد ونرفع سد اشتراكيه لآخر حد)، ليعود النميري ويقوم بسجنه بعد ذلك، لكنه خرج وعاد بقوة في انتفاضة مارس ابريل وطفلتها الديمقراطية الثالثة متغنياً (السجن ترباسو انخلع.. تحت انهيار الزلزلة.. والشعب بأسره طلع.. حرر مساجينو وطلع.. قرر ختام المهزلة)، ليعيش وردي بين فنه وشعبه حتى توقيت خروجه بعد انقلاب الإنقاذ في 30 يونيو 1989م، وعلى الرغم من مرور أربعة سنوات على رحيله إلا أن وردي مازال باقياً فينا بما قدمه من فناً لا ينضب أبدا.

 

 

الوان

Exit mobile version