دولة ناجحة بعيدًا عن ..
“الدولة هي الفكرة الأخلاقية المتحققة بالفعل؛ فهي الروح الأخلاقي من حيث هو إرادة جوهرية تتجلى وتظهر وتعرف وتفكر في ذاتها، وتنجز ما تعرف بقدر ما تعرف، توجد الدولة، على نحو مباشر، بالعرف والقانون؛ وعلى نحو غير مباشر في الوعي الذاتي للفرد ومعرفته ونشاطه، في حين أن الوعي الذاتي، بفضل ميله تجاه الدولة، يجد فيها، بوصفها ماهيته وغاية نشاطه ومحصلته، حريته الجوهرية”
على هذا النحو، يعرِّف الفيلسوف الألماني هيغل، الدولة، وهذا التعريف ظلّ مستهجنًا لدى اليسار واليمين (العربيين)، وبالتالي (السودانيين) المحلقين بهما، فالحركة اليسارية السودانية واليمين الديني (الإخوان، أنصار السنة، والسلفيون)، والأحزاب القوميّة العربية في السودان، كلها مستعارة من المنظومة العربيِّة السياسية والثقافية، وهي منظومة مأزومة كونها ترعرعت في بيئة تتحكم فيها سًلطات اجتماعية وسياسية وثقافية ودينية أبوية إقصائية، سرعان ما تعود بالفرد المنضوي تحتها (المثقف) سواء أكان في اليسار (الماركسي) أو اليمين (الديني/ الإخوان والسلفيين) إلى الجهة أو القبيلة أو الطائفة أو المذهب.
والحال هذه، فإن الناظر إلى جل منسوبي تلك الأيدولوجيات، من المثقفيين الشرق أوسطيين، يجدهم معظهم تحولوا ضربة لازب من ماركسيين متشديين وسلفيين متزمتين إلى شيعة وسنة وعلويين ودروز وأكراد وتركمان وعرب آيزيديين ويزيديين، ومارونيين وأرثوذكس وإلى آخر القائمة المذهبية/ الإثنية.
لربما، وهنا أشير إلى اليسار السوداني تحديدًا، لربما لأنه نما في كنف، واقتات من مائدة تلك البيئة العربية المأزومة والمريضة بالانتماءات الجهوية والمذهبية، رفض هذا التعريف الهيجلي للدولة، وبالتالي، ولأنه كذلك، فبالضرورة أن فلسفته وأفكاره من سَقَط المتاع، وغير مناسبة مع (الثوريين) لا من بعيد ولا قريب، سيما وأن أكثر منسوبي اليسار هنا، لا يزالون متشبثين بالتعريف الاختزالي، المنسوب إلى ماركس، أن الدولة (أداة قمع طبقية)، أو بأفكار فريدريك إنجلز، التي بسطها في (أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة)، مستندًا على إنثروبولوجيا مورغان، يوم كان هذا العلم في بداياته الأولى، وتوصل فيها إلى النتيجة ذاتها.
بطبيعة الحال، فإن اليمين السلفي الصلد، لم يقّدم مشروعًا متكاملًا لمفهوم الدولة، حيث يختلط عنده الديني والمدني اختلاط (الطين بالعجين)، فيظل يردد مقولات مثل دولة الخلافة، دولة المدينة، دولة الشريعة، دون أن يطرح برنامجًا يميط اللثام عن كيف ستكون مؤسسات الدولة متدينة وطهرانية. وبالتالي، ولأننا ملحقون بالملحق (العربي)، ولأن أحزابنا ومثقفينا من تابعي التابعين (الأحزاب العربية والمفكرين العرب)، لذلك صرنا ملحقين معهم حتى في فشل دولهم الماثل الآن.
لاشك، أننا لسنا بحاجة إلى دولة إسلامية تستعيد ألق الخلافة الراشدة ونضارتها، ولا اشتراكية تقوم على ديكتاتورية البروليتاريا الثورية، وتقضي على البرجوازية وعلى استغلال الإنسان للإنسان. فقط نحتاج إلى دولة مدنية تحقق، أو تموضع، الإنسان العاقل والأخلاقي في الواقع، أي تحقق الروح الأخلاقي للفرد، بالمفرد والجمع) تحققاً فعلياً)، ولما كان الروح الأخلاقي للفرد إرادة جوهرية، أي إرادة الاتحاد بالكل الاجتماعي والإنساني، وإرادة الحرية والعدالة والمساواة، وإرادة الخير والحق والجمال، لا مجرد إرادة الأمن وحماية الملكية الخاصة وتحقيق المنفعة الخاصة والمصلحة الخاصة العمياء، فإن الدولة هي التي تحقق هذه الإرادة الجوهرية. ما يعني أن الدولة ليست كائناً غريباً عن الفرد وليست سلطة خارجية مفروضة عليه عنوة وقسراً، بل هي تعيُّن ماهيته الإنسانية، أي تعيُّن إرادته الجوهرية، في القانون، الذي هو قوام الدولة.