ملاحظة مهمة تمظهرت في المشهد السياسي، بعدما قام رئيس الجمهورية بإجراء تعديلات واسعة على كابينة قيادة الولايات، حيث طالت طائلة التغييرات ثلاثة ولاة أمضى كل واحد منهم أكثر من عشر سنوات في منصبه. وهؤلاء كانوا مثار تحليلات كثيرة، بدءاً من الأسباب التي جعلتهم يعمرون كل هذه المدة انتهاءً بالأسباب التي جعلتهم تحت طائلة التغيير.
ونلاحظ هنا أن أحد هؤلاء الولاة الثلاثة ابتعد دون أن يثير غبار الاحتجاج خلفه، وعاد للعمل في القطاع الخاص وهو المهندس أحمد عباس، الذي تسنم كرسي قيادة ولاية سنار. أما عثمان محمد يوسف كبر فلم يتمكن من تجرع كأس الإبعاد من كابينة ولاية شمال دارفور، ولم يستطع التصالح مع حقيقة أنه لم يعد والياً يُلقب بأمير المؤمنين في ولاية شمال دارفور، فناصب الوالي عبد الواحد يوسف العداء وقتاً ليس بالقصير، إلا أنه بدا أخيرًا كمن وصل إلى قناعة الرضا بلقب والٍ سابق بدلاً عن أمير المؤمين أو “كبر رئيس إلا شبر”. أما ثالثهما فرغم تكليفه بواحدة من أهم الولايات إلا أن قلبه ما يزال معلقاً بالعودة الى إدارة ولاية كان يلقب فيها بأمير الشرق. ذلك هو محمد طاهر إيلا والي والبحر الأحمر السابق الذي يدير شأن ولاية الجزيرة حالياً. ولكي تصل إلى القناعة بأن قلب الرجل ما يزال معلقاً بالشرق، ما عليك إلا أن تغوص في واقعة “الشمندورة” الأخيرة التي أكدت أن ما بينه ووالي البحر الأحمر الحالي علي أحمد حامد ليس في مساره الطبيعي.
صراع مكتوم
أثناء فعاليات مهرجان السياحة بالبحر الأحمر رفض وفد ولاية الجزيرة تقديم عروضه بقاعة الشمندورة التي تسع لألفي مشاهد، وتمسك بإقامة الاحتفال في الاستاد، وهو ما رفضته قيادة ولاية البحر الأحمر، على اعتبار أن البعض يرى أن الأمر فيه دهاء سياسي أراد من خلاله مناصرو إيلا في ولاية البحر الأحمر وفي ولاية الجزيرة إظهار شعبية الرجل، من خلال إقامة عرض ولاية الجزيرة بإستاد بورتسودان، ما يتيح الفرصة لترديد هتاف “إيلا حديد” لإحراج الوالي الجديد علي حامد الذي يبدو أنه تفطن إلى هذا الأمر.
وهي الحادثة التي تعرف بحادثة قاعة الشمندورة، التي لم تكن المواجهة الاولى بين واليي البحر الأحمر والجزيرة، فطوال الأشهر التي أعقبت تعيين الولاة ظل الصراع مكتوماً بينهما ولم يظهر إلى السطح إلا أخيراً، ولكن الكثير من الشواهد والأحداث التي حفلت بها الأشهر السبعة الماضية أكدت أن ما بين الرجلين ليس في مساره الطبيعي، غير أن العودة إلى ما قبل تعيين الولاة في يونيو الماضي تزيح الستار عن الأسباب الحقيقية التي تقف وراء القطيعة بين الرجلين، ذلك أن محمد طاهر إيلا الذي يلقب بأمير الشرق كان على ثقة من استمراريته والياً على البحر الأحمر وذلك استنادا على ما كان يعتقده إنجازات باهرة تشفع له، إلا أن رأي المركز استقر على تكليفه بولاية الجزيرة بعد أن رفض تولي منصب وزير الطرق والجسور، ورغم الاستقبال الكبير والحاشد الذي حظي به بولاية الجزيرة والقبول منقطع النظير الذي قابل به مواطنو الولاية تكليفه وتعليقهم آمالاً عراضاً عليه، إلا أن الرجل كان ينظر باتجاه الشرق رافضاً فكرة التصالح مع حقيقة ابتعاده عن ولاية ظل يسمع فيها أنشودة “إيلا حديد” أينما توجه، ليظهر مبكرًا صراع مكتوم بينه وبين علي حامد الذي يبدو أن الأقدار أرادت أن يدفع فاتورة ما يعتقده البعض أنه سبب السقوط المدوي للفريق أول الهادي عبد الله في انتخابات سبتمبر من العام 2014، ليدخل الجنرال مبكراً في دائرة صراعات لم يتوقعها أو يريدها.
سلطة الإيلاويين
بدأت ملامح الصراع واضحة مبكراً، وذلك خلال استقبال علي حامد عندما حط للمرة الأولى بالبحر الأحمر عقب تعيينه، فقد اختار الرجل السفر عبر البر انطلاقاً من عطبرة، وقد خرجت أعداد مقدرة من جماهير الولاية لاستقباله من هيا وحتى بورتسودان، وقد كان الاستقبال كبيراً، وذلك لأن الذين رتبوا له وشاركوا كان معظمهم على عداء مع محمد طاهر إيلا، هذا الاستقبال جعل من يلقبون بـ(الإيلاويين) وهو تيار يضم عددا مقدراً من السياسيين ورجال المال والأعمال يعد احتفالاً آخر لاستقبال والي الجزيرة عقب عودته لأول مرة إلى بورتسودان بعد تكليفه بإدارة الولاية الوسطية، وبالفعل كان أيضاً الاحتفال حاشداً وكبيرًا أكد على امتلاك إيلا لأنصار لا يستهان بعددهم، وبعد انجلاء غبار احتفالات استقبال الرجلين بدأ الصراع الحقيقي بينهما او بمعنى أكثر دقة من جانب الإيلاويين حيث واجه علي حامد عددا من العقبات في فترته الأولى أبرزها الصراع الذي شهده المكتب القيادي للحزب الحاكم بالولاية الذي رفض اعتماد مرشح الوالي عبد الله إبراهيم فكي، علماً بأن المكتب القيادي يسيطر عليه من يطلق عليهم لقب الإيلاويين بصورة مطلقة، ليتراضى الطرفان على الفريق حسن محمد مختار نائباً لرئيس الحزب، لتأتي بعد ذلك أزمة الجرافات والتي أيضاً ارتفع فيها صوت الإيلاويين وكاد أن يعصف بعلي حامد الذي حينما اشتد عليه الخناق كشف بأن عهد إيلا ايضاً شهد توقيع عقود مع المصريين مثل التي صادق عليها، وأيضاً من العقبات التي يرى البعض أنها كانت مصنوعة لإفشال علي حامد اصطحاب إيلا الى الجزيرة عددا من الكوادر التنفيذية والسياسية الفاعلة مثل مدير هيئة نظافة الولاية ومسؤول قطاع الأفراد والفئات بالحزب نيازي إبراهيم ومؤسس قناة البحر الأحمر الصادق المليك وغيرهم، ويعتبرون أن الهدف من وراء هذا الأمر تجفيف الولاية من الكفاءات التي يمكن أن يستفيد منها علي حامد.
واقعة الشمندورة
ولم يتوقف الصراع بين الرجلين على الشواهد السالف ذكرها بل تعداها إلى الكثير من الوقائع أبرزها بكل تأكيد زيارات الإيلاويين لولاية الجزيرة رسميين وشعبيين للتأكيد على مكانة أمير الشرق، ولإرسال رسائل صوب المركز توضح خطأ إبعاده عن الولاية الساحلية ورسالة صوب البحر الأحمر تؤكد عودة الأمير الى الجلوس على عرشه، ونتاجاً لكل الأحداث والوقائع بين الرجلين، جاءت حادثة صالة الشمندورة الأخيرة التي انتقلت بالصراع من مرحلة التستر الى الجهر وذلك حينما رفض وفد ولاية الجزيرة تقديم عروضه ضمن مهرجان السياحة بالبحر الأحمر بقاعة الشمندورة التي تسع لاثنين ألف مشاهد وتمسك بإقامة الاحتفال في الإستاد إلا أن الجهات المسؤولة رأت أنه ليس من حق الضيوف تحديد مكان تقديم عرضهم ليعتذروا عن تقديمه ويعودوا أدراجهم صوب ودمدني، وما حدث اعتبره الكثيرون صراعاً بالوكالة خاصة من جانب وفد الجزيرة، إلا أن تفسيرات هذا الأمر ذهبت لاتجاهات مختلفة فالبعض رأى بأن قيام الاحتفال في الإستاد وبحضور محمد طاهر إيلا كان من شأنه توضيح مكانة الرجل من خلال حضور جماهيري ضخم كان متوقعاً، ويشير أصحاب هذه الفرضية إلى أن حكومة علي حامد تمسكت بالرفض خوفاً من ترديد من هم بالإستاد لهتاف إيلا حديد، إلا أن رواية أخرى يعتبرها البعض أكثر صدقية تشير الى أن إيلاويين من ضمن لجنة احتفال السياحة وبعد أن تيقنوا بضعف حشد الإستاد تقدموا باقتراح قيام عرض الجزيرة داخل صالة الشمندورة حتى لا تنكشف جماهيرية إيلا، وأنهم نجحوا بذكاء في إظهار حكومة الولاية بمظهر الرافض لقيام الاحتفال بالإستاد رغم أن الحقيقة تشير الى خلاف هذا، ويوضح أصحاب هذه النظرية أن إيلا وحينما عرف بضعف الحشد طالب وفد الجزيرة بالتمسك بالإستاد وعدم تقديم العرض، وفي النهاية كشفت الحادثة بغض النظر عن تفاصيلها أن ولاية البحر الأحمر باتت ملعباً مكشوفاً للصراع بين رجلين، وللمفارقة ينتميان لحزب واحد ويشغلان منصباً يفترض في من يتولاه التحلي بالمسؤولية وتجاوز سفاسف الأمور.
تدخل غير مبرر
وفي تفسيره لما يحدث بالولاية يشير القيادي السياسي البارز ناصر الطيب، الى أن الحادثة الأخيرة أراد من خلالها والي الجزيرة محمد طاهر إيلا إرسال عدد من الرسائل للمركز ومجتمع الولاية، إلا أن ناصر وفي حديثه لـ(الصيحة) أكد فشل ما كان يخطط له محمد طاهر إيلا عقب انتفاضة والي البحر الأحمر ورفضه إملاءات وشروط ضيوف الولاية، مؤكداً أن فشل الحشد الجماهيري الذي كان ينشده إيلا في الإستاد يعود بشكل مباشر الى افتقاد الرجل للقيادي محمد طاهر أحمد حسين الشهير بالبدورز الذي كان يقف وراء الحشود التي يمتلئ بها الإستاد، قاطعاً بأن كل الحشود التي تشهدها الولاية جزء كبير منها مدفوع القيمة باستثناء حشد أشار ناصر إلى أنه خرج تلقائياً وعفوياً لاستقبال مدير جهاز الأمن الأسبق بالولاية اللواء ياسر الطيب، ويعتقد ناصر أن الأزمات الأخيرة التي تشهدها ولاية البحر الأحمر تعود بشكل مباشر الى تدخل إيلا في شأنها حتى بعد تكليفه بمنصب والي الجزيرة وأضاف: الكثير من الولاة تم تحويلهم من ولاية إلى أخرى إلا أنهم لا يتدخلون في الولاية التي عملوا فيها وذلك لاتصافهم بالمؤسسية والمنهجية إلا أن إيلا يرفض تعاطي هذا الأمر، وعقده لتوأمة بين ولايتي الجزيرة والبحر الأحمر تؤكد أنه يريد أن يظل موجوداً في المشهد السياسي ببورتسودان بأي شكل، وأعتقد أن التؤامة كان عليه عقدها مع ولايات الجوار للجزيرة التي تربطها مصالح مشتركة معها وليس مع البحر الأحمر البعيدة عنها جغرافياً، ويشدد ناصر الطيب على ضرورة اهتمام محمد طاهر إيلا بشأن ولاية الجزيرة وترك ما يتعلق بالبحر الأحمر التي قال بأنه يوجد فيها وال مسؤول عنها وقادر على إدارتها.
ضعف الحزب الحاكم
من ناحيته يشير المحلل السياسي عثمان فقراي الى أن الصراعات التي ظلت تشهدها ولاية البحر الأحمر خلال الأشهر السبعة الماضية تعود بشكل مباشر إلى عدم وجود حزب المؤتمر الوطني بالمسمى والشكل المتعارف عليه، ويشير في حديثه لـ(الصيحة) إلى أن الوالي السابق نجح في تفصيل الحزب على مقاسه وإن هذا كان مدعاة لاحتجاج قادة الحركة الإسلامية بالولاية الذين اعتبروا أن المؤتمر الوطني بالبحر الأحمر لا يعبر عنهم ويبدو واقعه شاذاً، وأنه ليس الحزب الذي عملوا على بنائه، ويقول الفريق فقراي إن المجموعة التي يطلق عليها لقب الإيلاويين عملت على عرقلة مساعي ومجهودات علي حامد حتى يلازمه الفشل ويعجز عن إدارة الولاية لتذهب الريح التي جاءت به حتى يعود محمد طاهر إيلا مجددًا ليحكم البحر الأحمر، ويشير فقراي الى أن أسلوب علي حامد الذي يتصف بالحذر والابتعاد عن المواجهة المباشرة مع التيار الإيلاوي جعل الكثيرين يعتقدون أن البحر الأحمر تدار من ودمدني وليس بورتسودان وأن إيلا عائد الى منصبه، ويقطع فقراي باستمرار الصراع بين الرجلين إذا استمر علي حامد في اتباع منهجه المهادن مع إيلا وجماعته، ورأى أن الوالي حامد مطالب بإعادة ترتيب الحزب الحاكم حتى ينتقل الولاء من الأفراد إلى المؤسسة الحزبية، وأردف: إذا لم يتدخل المركز لإعانة على حامد فإن هذا الصراع لن يتوقف، وفي تقديري أن المؤتمر الوطني واحد من أسباب ما يحدث في الولايات من خلافات وتفشي القبلية والفساد، والبحر الأحمر ليست استثناء.
انصراف
ما تشهده الساحة السياسية بولاية البحر الأحمر كانت مثار تعليق وتعجب من قبل قطاع واسع من المواطنين بالولاية، وهذا ما رصدته (الصيحة) من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، فقد اعتبر البعض أن ما يحدث نتاج طبيعي للضعف الذي اعترى جسد الحكومة والحزب الحاكم، فيما رمى آخرون باللوم على والي الولاية علي حامد الذي وصفوا سياسته بالضعيفة والذي لا يمكن أن ينجح عبرها في إدارة ولاية أزمات مثل البحر الأحمر، ويعتقدون أن الرجل مطالب بإظهار الحزم الذي يتصف به رجال الدولة حتى يتمكن من إيقاف تمدد التيار الإيلاوي، فيما يرى آخرون أن من حق الوالي السابق بحكم أنه أحد أبناء الولاية أن يتدخل في شأنها من أجل المصلحة العامة، ولكن تياراً آخر يرى بأن إيلا ما يزال يعاني مرارات إبعاده من المنصب وأنه لن يهدأ له بال حتى يعود إلى منصبه رغم استحالة حدوث هذا، ونصحوه بالتركيز على حل مشاكل ولاية الجزيرة والابتعاد عن شأن البحر الأحمر، وأخيراً يرى تيار واسع أن ما يحدث بالولاية يوضح انصراف المؤتمر الوطني إلى معارك ليست ذات قيمة بالجزيرة والبحر الأحمر وتركيز قادته بكل الولايات على تصفية حساباتهم الشخصية وعدم اهتمامهم بقضايا المواطنين الحقيقية.
صديق رمضان
صحيفة الصيحة