لو كنت مؤمنًا بأن للحكومة نزعة (نيوليبراليّة) في الاقتصاد والتجارة – على الأقل – لكنتُ ما تزلفت إلى هذا النوع من النقد، اعتمادًا على خبرٍ صغير أوردته يومية الصحافة التي عاودت الصدور مؤخرًا، وهو أن وزارة النقل والطرق والجسور أعلنت عن رغبتها في الخروج من سوق المقل، وذلك عبر طرح ما أسمتها بكافة قطاعات النقل في البلاد للتحرير، وأن (عمليات) التحرير ستكون وفق ضوابط ولن تكون مطلقة، وأنهم بصدد تحرير تعرفة البصات السفرية بين المدن.
حسناً، ولأنني في العموم– لا أكاد أصدق – ما يصدر عن الحكومة، لأنها دأبت على قول شيء وفعل آخر متناقض، وهكذا ظلت تُدير دواليب العمل في مؤسساتها كلها، وعلى وجه خاص ما يتعلق بسياسات التحرير الاقتصادي التي أعقبت فصولاً من الاحتكار وتضييق الخناق على رجال الأعمال وصغار التجار والمستثمرين بداية الإنقاذ، إلى أن ظنت أنه قد تبين لها الرشد من الغي عبر أطروحات (حمدي) الاقتصادية ومقولاته الشهيرة في التحرير وفك أسر الأسواق وإطلاقها، فبيعت قطاعات اقتصادية فاعلة ونشطة ورابحة عبر مضاربات و(سمسرات) لا تزال آثارها السالبة قائمة حتى اللحظة.
بطبيعة الحال، فإن أقوال وزارة النقل في شأن نيتها تحرير قطاع النقل، وبهذه الطريقة التي لم يُشر فيها إلاّ إلى منح أصحاب البصات السفرية الجائلة بين المدن المُختلفة سلطة تحديد تعرفة التذاكر، تحتاج إلى تأويل مبني على خلفية معرفية بسلوك المؤسسات الحكومية (سوابقها)، وفي الحالة فإن المستهدف من كل هذا اللف والدوران (والكلام الكُبار) هو زيادة تعرفة تذاكر البصات السفرية، ثم رويدًا المواصلات الداخلية، لم لا وقد ارتفعت أسعار الغاز وتعرفة ماء الشرب في الطريق.
والحال أنّ سبب تلك القرارات هو حالة الارتباك الكبيرة التي وسمت الأداء الاقتصادي الحكومي، في تلك المرحلة الانتقالية بين عجزها عن تحقيق ما اسمته بمشروع الاقتصاد، ومن ثم محاولتها التخلي عبر سياسات (حمدي) من الراديكاليّة الجامحة إلى النيوليبراليّة، لكن ذلك كله لم يُحدث تغييرًا مهمًا، ومع مرور الوقت وما كان يتوقع من الأمر سيسفر عن تجارب ومعانٍ وتغيّرات حقيقية، اتضح جليًا أنه لم يعدو كونه محض (كلام) وكأن الراديكاليّة ليست نقيضًا للنيوليبراليّة.
وهكذا، بدا الأمر وكأن الحكومة تحرر من جهة، لتحتكر عبر رجال أعمال موالين لها من جهة أخرى، أي تضع كل ما يتعلق بيوميات (معاش) المواطن من أنشطة خدمية واقتصادية في يد ثلة من (البدريين والتابعين)، والناظر إلى قطاعات الصحة والتعليم والنقل والخدمات الترفيهية والزراعة، يرى هؤلاء مباشرة.
على أي حال، تمضي الأمور على نحو من زيادات مضطردة ومتوالية في أسعار السلع والخدمات، بدعاوى تحريرها من قبضة الحكومة مرة، وبدعاوى رفع الدعم عنها مرات، وعندما تعلن مؤسسات الحكومة عن برامجها تلك، تظن أن لا أحد يفهم يستطيع حل العقد التي في روايتها، وهي رواية بلا عقد في الأساس، بل هي رواية متخشبة، لا تحفز الخيال، ولا تحرض على التأمل حتى، خاصة وأن النيوليبراليّة الاقتصاديّة التي تدعي الحكومة تبينها الآن وهنا، هي في الأصل مُدانة أومرفوضة في البيئة مبدئيًا (آيدلوجيًا) من قبل دعاة تطبيقها أنفسهم، ولربما هذا التناقض هو ما جعلهم يريدون التحرير ويخشونه في آن، فيضعون كل مقدرات الدولة في أيدي الموالين لهم، ويقولون بثقة “لقد حررنا الاقتصاد”، والسوق هو الحكم، عن أي سوق يتحدث هؤلاء؟ بعد أن جفل الغاز وها هي المواصلات الداخلية والخارجية في الطريق.