قال لى أحد الأصدقاء من أبناء غرب السودان إن الكثير من مصائب قبائل الغرب تأتي من بعض أبنائها أنصاف المثقفين، فهؤلاء حين يجلسون مع أهلهم يتسامحون معهم في أخطائهم القبلية لأنهم يأملون في حظوة أو رجاء أو وظيفة.. وليتجملوا بها عند أصحاب القرار.. وإن رأوا خطأً صريحاً وبواحاً صمتوا، فإن في صمتهم دريئة حتى لا يسقط الإعجاب الزائف..
وما بين الرجاء والصمت ماتت الحقيقة.. وصارت الكلمات رصاصاً وفتنة ودماً.. لقد آن الأوان لأبناء هذه القبائل أن يجلسوا مع أهلهم ويعلمونهم قيمة النفس المهدرة والفريق المسلوب والأمان المغتصب، هذا هو الأبقى. أما دار (صباح) فقطعاً ملحوقة ولو بعد حين..
استمعت للرجل في احترام وهو يقدم لى مرافعته الطويلة التي اختصرها في هذه الكلمات.. وصدقتها عندما رأيت دموعه العصية وهو يحدثني عن أفراد أسرته الذين قتلوا في لا شيء نعم في لا شيء!!
هل هذا المثال موجود
حين كانت قرى شرق الجزيرة بخير في منتصف الستينيات.. كان لكل قرية (بلدات) وسواقي وشواديف ومراحاً.
وكان لكل قرية راعٍ لهذا المراح الممراح من أبناء البقارة من المسيرية أو الرزيقات.. شاب ترك الأهل وأتى لهذه الديار يحلم بمال أو بتجربة أو باستقرار، كان كل واحد منهم يسكن في بيت قصي من القرية عنده (مزمار) وإبريق من الشاي وغناء طويل مع الليالي المقمرة.
الشاب الذي كان يرعى ويهتم بمراح الشرفة كان اسمه أزرق، شاب طويل قسيم صبوح ودود اللهجة كثير الصلاة .. ولأن والدتنا الحاجة (بنت الشريف) كانت تملك مراحاً معتبراً فقد كانت تهتم به وبضيوفه وقد كنت أهتم بعالمه قبل أن أدخل المدرسة.
كان أزرق هذا يدعو كل أسبوع كل رعاة القرى المحيطة بالشرفة يجتمعون أسبوعياً في بيت أزرق (المسيري) يشربون الشاي مثنى وثلاث ورباع وكان لهم ولع بالشعيرية باللين وما أدراك ما الشعيرية باللبن في القرى!! إن طعمها مثل تعليق الإعرابي الذي دخل العمارات ورأى أطفالاً (ناصحين) يطلون من الدور الثالث فصاح في براءة: يا للحظ (إنهم لا يغيبون أبداً عن الزلابية).
كان أزرق يصرف على ضيوفه كل ما يصله من راتب وحوافز ومدخرات .. كانوا يغنون أغنيات في غاية العذوبة والذوق:
القمر اللجيت
يا السادة
وفوق النجوم ضويت
يا السادة
إنهم يتحدون بالسادة هذه عادات الشلوخ القبيحة إنهم مثل عبد الرحمن الريح حين أطلق رائعته (ما شوهوك بفصادة على الخديد السادة).
رغم أن الراحل علي ميرغني أوقف العزف وصاح (ما جملوك بفصادة على الخديد السادة) مدافعاً عن شلوخه وشلوخ عبد الرحمن الوضيئة.
أسرت لى الوالدة أن أتحدث مع أزرق ليقلل من بذخه وصرفه وكرمه لأن أمامه مشوار العودة وفرح الأهل المنتظر.. لم أبالِ بمشاعر الرجل وألقيتها عليه مُقرِعاً.. لماذا يصرف كل راتب الشهر على هذه الدعوات الأسبوعية وعليه سفر طويل؟.
أطرق أزرق لدقائق حسبتها لن تنقضي وقال انها دعوات للذكرى، ألم تسمع الأغنية الجديدة؟ قلت: لا.. فبدأ يدندن برائعة أبو خليل:
(الذكرى الجميلة لو تعرف معناها ٭٭ لا الدنيا بتزيلها ولا آخرة بتمحاها)
كانت الأغنيات يومذاك عطاء نبيلاً في حركة الثقافة الجماهيرية كانت كلمات كل أغنية خطاباً للجميع وبرقية لكل القطاعات وأملاً لذلك فإن أول مغنى حضرته لإبراهيم عوض بودنوباوي طلبت منه بإلحاح أن يغني (الذكرى الجميلة) فضحك وقال لى بابتسامته الشهيرة (والله دي ما موقَّعة). فاستبدلتها بأغنية (يا زمن وقف شوية) أغنية التجاني سعيد المفضلة آنذاك!!.. ولو كان إبراهيم عوض يدري خطورة اعتذاره لوقَّعها مع عربي والمزارع وبريس وبدر التهامي وغناها بلا تردد.. لأنها كانت تحكي حالة القرية السودانية حين كانت أكثر وسامة من الريف الانجليزي.. ولأنها كانت تمثل طفولتنا غربة أزرق والمراح الممراح.. حين كان بيع اللبن عيباً.. وحين كان الناس يأكلون حيثما حاصرهم الجوع.. الرعاة الآن لا يعرفون الذكرى الجميلة ولا الفرصة الجميلة ولا سيدتي الجميلة..
الرعاة لو سألتهم اليوم عن إبراهيم عوض لظنوه أحد مصدري الماشية بسوق أم دفسو، إن حالة أزرق تذكرني بحالة صديقنا الزين «العيكورة» الفنان الذي أتى من مدني ليجيز صوته بالإذاعة فقابله (عبد المحمود نور الدائم الكرنكي) مصادفة فجنده لصالح حركة (الاخوان المسلمين) وجعله يغني لأحمد علي باكثير ولسيد قطب وإقبال وشطب من قاموسه الحلنقي ومحمد علي جبارة وتاج السر عباس.. ومنذ ذلك اليوم صار الزين يتحدث لغة أخرى..
وقد حكى لي أحد أصدقائه هذه الحكاية الطريفة.. قال إن الزين كان يقود عربته التاكسي من الخرطوم إلى أم درمان والدنيا حر (مبالغة) كما يقول أولاد أم درمان.. التاكسي ملئ بالركاب الخمسة وبعد دقائق من الحركة الوئيدة قال الزين في اطمئنان: (يا جماعة أي توتر في نفوسنا عائد لعدم إدراكنا فلسفة التناغم والتوحد الذي ينتظم هذا الكون)، فإذا بالزين يفاجأ بالركاب يطالبونه بالتوقف القسري وهم يرددون في ضجر: (هنا من فضلك ولا خطوة إنت سواق تاكسي ولا فيلسوف؟!!).