وأول أمس، تواترت الأخبار عن قرار جمهوري صدر عن رئيس دولة جنوب السودان سلفاكير يقضي بتسمية نائبه السابق وزعيم المتمردين – ربما السابق أيضًا – رياك مشار نائبًا أول له، وفقًا لمقتضيات اتفاق السلام الذي وقعاه في أغسطس الماضي والذي يقضي بتقاسم السلطة ضمن حكومة وحدة وطنية انتقالية.
غريب أمر السياسيين في العالم الثالث – الأفريقي بصفة خاصة – والناظر إلى أحداث جنوب السودان الأخيرة، يُصاب بخيبة أمل كبرى، فالمتأمل لتجربة الحركة الشعبية لتحرير السودان، الحزب الحاكم والمعارض في الجنوب الآن، يجدها شديدة الخِزي والمرارة، إذ أنها أي (الشعبية) أعلنت نفسها حركة ثورية ضد الظلم والتهميش، ضد البغي ومع الانعتاق والحرية والسلام والتنمية والرفاهية، حتى أن زعيمها قرنق أطلق في خطابة لدى أول زيارة له للخرطوم بعيد التوقيع على اتفاقية السلام الشامل ( نيفاشا)، عبارات عالية السقف: “أيها السودانيون، أنتم الآن أحرار، فافتحوا أجنحتكم وحلقوا”، يا لها من أمنيات سرعان ما تبددت – حيث عجز جناح طائرة الزعيم نفسه جناح عن التحليق فسقطت وأُزهِق الزعيم، فتولى بعده نائبه كير زمام الأمر، واستقل الجنوب عن الوطن الأم عبر استفتاء شعبي مشهود.
حينها، فتح مواطنو جنوب السودان، أجنحتهم وحلقوا في فضاء الحرِّية، وحق لهم ذلك – إذ ظلوا ينتظرون هذا اليوم، وهم يحلمون بعالم سعيد، لكن خذلهم زعماؤهم حين تحولوا من ثوار ضد الظلم والقهر إلى طالبي سلطة بقوة السلاح. فسرعان ما دبت الخلافات بين قيادة الدولة الوليدة (سلفاكير ونائبه مشار)، خلافات وصراعات توسل فيها الطرفان بما كانا يدعيان أنهما ثارا ضده فتوسلا العنف الشديد والقبلية الفجة حتى صلت الأمور إلى حد الصراع المسلح عام 2013 وأسفرت الحرب الأهلية عن قتل الآلاف ونزوح أكثر من مليوني شخص.
الآن، وبعد تلك المقتلة الكبرى التي أدارها كير ومشار، وبعد ما فعلاه بحق المواطن الجنوبي المغلوب على أمره، عادا إلى المربع الأول بعد ضغوط إقليمية ودولية، فكان الخاسر الوحيد هو المواطن، هو الوطن الوليد، هي الحرية الموءودة، وأضحت بين الناس ثأرات ودماء.
بطبيعة الحال، لن تنتهي الخلافات، ما لم يذهب الرجلان وطاقماهما بعيدًا، ويتركا للشعب الجنوبي أن يدير أموره بعيدًا عن ما يبذلانه من خطاب عنصري ومحفوظات قوميّة فقيرة يهربان عبرها من مواجهة مسؤوليّتهما، عن تلك المقتلة الكبرى التي أداراها انتصارًا لذاتيهما الفانيتين، فحطما كل شيء حتى الأحلام الصغيرة، ولا يزال كل منهما ينتظر الفرصة لينقض على الآخر.
هكذا بدا لي قرار (كير) الذي أصدره الخميس المنصرم (مجبرًا لا بطلًا) بإعادة مشار نائبًا أول له محض عبث لا يثير الريبة خاصة وأنه يرفع المسؤوليّة عن أنظمة