على مدخل بوابة الحديد اللبنية اللون، بحي المزاد في مناقل الخير والوفاء، كانت الحاجة عرفة تنادي ابنها جلال وهو على دراجته الرالي يمضي إلى المدرسة لإنجاز امتحان اللغة الإنجليزية في امتحانات الشهادة السودانية في مستهل ثمانينات القرن الماضي. كانت تنبهه لأمر، كانت تراه مهماً وضرورياً، وعلى المشهد عين تراقب وأذن تسمع، وعرفة تنادي : (يا جلال يا جلال ..حل الكمبرهينشن قبل الكومبزشن). والعم محمد الأمين سر الختم الشيوعي المعتق، يكاد يسقط من الضحك :(يا عرفة بقيتي تعرفي الكومبزشن والكمبرهينشن كمان).
كل سكان الحي يعرفون ولعها بالتعليم وحرصها على تفوق أبنائها وبناتها ومباهاتها في مجالس النساء بذلك .
لم أكن ضمن تلك القائمة الافتخارية حيث كنت في الوسط من حيث النتائج أعلو وأهبط، ربما كنت نقطة ضعفها الوحيدة ضمن مقارنات أبنائها وأبناء الجيران في سباقهم نحو التميز الأكاديمي.
كانت تذاكر معنا الدروس إلى حدود معرفتها وعندما نتجاوز ذلك في مراحل التعليم تكتفي بالتحريض على القراءة والإسناد بالدعاء.
كان بعضنا يناديها عرفة دون صفة الأمومة ولا نجرؤ على فعل ذلك مع الوالد بذكر اسمه بلال إلا عند الحاجة الرسمية.
كانت في كمال عافيتها صديقة أو شقيقة كبرى أكثر من كونها والدة نمازحها ونضاحكها، تغضب وتعاقب، وتصفو على ود ومحبة. كانت لها طاقة معنوية نادرة في احتمال الأوجاع والأمراض لازمها ارتفاع ضغط الدم ولحق بها السكري وضعفت عضلة القلب وعجزت الكلى عن القيام بواجبها في تنقية الدم من السموم.
كل ذلك لم يعكر صفاء ضحكتها الصادحة ولم يوهن ابتسامتها الفالجة، كانت دوماً قادرة على السخرية من كل شيء حتى الموت. والدربات تتلاحق عليها وهي تقول ساخرة للأطباء: (يا أولادي ما طنبجتوني).
والدي كان أحرص منها على صحتها. وجدته في مرة يبكي وحده وهو يقلب أوراق تخص وضعها الصحي. كان ذلك في بدايات اعتلال القلب .. في بعض المرات حينما يأتي ميقات تناول الحبوب يذهب الوالد إليها في أحد منازل الجيران : ( يا عرفة حبوبك ما بلعتيها هاكي ليها).
كان يعاتبها برفق حينما تهمل في تناول الدواء أو تسرف في تناول الممنوعات الغذائية وحينما يشتد به الغضب يقول (ماذا أفعل معها ..نعم للموت شهوة كما للحياة).
كان لا يدرك أن قدر الموت سيناله قبل خمسة عشر عاماً من رحيلها وهو الصحيح بغير علة.
كان يردد كل ما تحققونه من نجاح الفضل فيه لأمكم. لم أسمعه في يوم يغلظ عليها بالقول أو يكسر لها خاطر بكلمة أو تعبير جارح. كان يمتص انفعالاتها بابتسامة متمادية في الصبر الحنون. هذا ما عجزنا عن فعله مع زوجاتنا الآن.
حينما تتكاثر عليَّ الهموم وتحاصرني المهام أذهب إليها لأتحدث معها في أي شيء غير ذي صلة بمشاغلي أجدني وقتها أعود معها إلى الطفولة والصبا فأخرج منها ممتلئ بالسعادة على حالة الشا عرشابو:
يتساقط عني الصدى ويزهر في الكلام الجميل .
أكثر ما كان يميزها مقدرتها على التواصل الودود مع الآخرين بمختلف أعمارهم ما أن تدخل مكاناً سرعان ما تخلق إلفة وود مع الناس والأشياء .
في مستشفى المستقبل بجدة خلقت صداقة مدهشة مع الممرضات الفلبينيات إحداهن رغم انتهاء دوامها في العمل أصرت أن تصل معها إلى سلم الطائرة في عودتها إلى الخرطوم. كن يخدمنها بمحبة ما بعد الواجب.
بمستشفى الفؤاد في وحدة غسيل الكلى خلقت الحاجة عرفة علاقة ود ومحبة مع الوحدة الطبية و رفقاء مرض الفشل الكلوي كانوا يضحكون ويتمازحون تأتي إليهم بالبيتزا والقراصة . كأنهم أصدقاء السنوات الطوال وفجأة يتحول المكان إلى بيت عزاء صامت حينما يغادر أحد الرفقاء إلى العالم الآخر.
في جمعة الحزن بمستشفى الفيصل بالعناية المكثفة عند ميقات الصلاة كان الطاقم الطبي يفعل كل ما في حيلته ومقدرته البشرية حتى تنجو الحاجة عرفة من مصيبة الموت.
توقف القلب لأكثر من مرة مؤشرات المونيتر تمضي إلى الصفر وصدمة كهربائية على القلب تخرج صرختها الأخيرة (ااااه يا يمة)؛ كانت تنادي وتستغيث بأمها سعدية متعها الله بالصحة والعافية.
رحلت (عرفة) الحنون الضحوك ولم تترك لنا سوى الأحزان والذكريات ونداء بين السماء والأرض نطلقه في سرنا وجهرنا (اه ه يا يمة).