(اهتم بذاتك، فكر بنفسك، استمتع بحياتك، عش يومك، قدر ذاتك، أنت أولا)، كلمات صرنا نسمعها كثيرا في البرامج التدريبية والمقالات والكتب، فتحمس كثير من الناس لهذه العبارات، وعاشوا بحروف الكلمات لا بمعانيها، فصاروا يتخلون عن كل التزاماتهم الحياتية والاجتماعية من أجل أن يستمتعوا بحياتهم، ويهتموا بأنفسهم ويقدروا ذواتهم، وصار الآخرون أيا كانوا لا قيمة لهم في حياتهم.
وقد دخلت علي امرأة يوما تبكي بكاء مرا وتقول لي: لقد غيرت نمط حياتي بعد حضوري إحدى الدورات التدريبية، فقررت أن تكون نفسي هي رقم (1) في حياتي، فغيرت صديقاتي وتركت تربية أبنائي على الخادمة وأهملت زوجي، ومع هذا كله لم أشعر بالسعادة التي كنت أنشدها، فتعلق أبنائي بالخادمة وصار زوجي يبحث عن امرأة أخرى، واستمررت أجعل نفسي أولا، ولكني مازلت لا أشعر بالراحة والسعادة، وبعدها دخلت دورة ثانية لأعالج مشكلتي، وأغير نفسيتي لأكون سعيدة، فتعلمت في الدورة أن أكافئ نفسي وأشرب القهوة وحدي وأعمل مساجا لجسدي، وأسافر لبلد لم أزرها من قبل، وقد عملت كل هذا ومازلت غير سعيدة، فلا أعرف ماذا أفعل؟
مثل هذه الحالة جاءتني كثيرا خلال السنتين الماضيتين، ويرددون علي المنطق نفسه (نفسك أولا)، وهم لا يعلمون أن هذا المنطق الذي يتحدثون عنه في الدورات المترجمة يصلح لمجتمع مختلف عن مجتمعنا، وهو مجتمع يؤمن بحياة واحدة وهي الدنيا، ولا يؤمن بالحياة الآخرة، ولهذا يرددون (عش يومك)، ويتغنون بـ (استمتع بحياتك)، ويعلنون شعار (أنت أولا)، أو (اهتم بذاتك)، لأنهم يرون فقط حياة واحدة وهي الدنيا، بينما نحن نرى الدنيا مقدمة لحياة أخرى سماها القرآن (دار الحيوان)، قال تعالى (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان)، يعني هي الحياة الدائمة والخالدة والباقية،
فمن كان يؤمن بالحياتين الدنيا والآخرة فإنه لا يستطيع أن يطبق الكلام الذي يتردد بالدورات واللقاءات، وهو إعطاء الأولوية للنفس مع إهمال حقوق الوالدين والأهل والإخوان والأصدقاء، فإن الذي لا يؤمن بالدار الآخرة عندما يتحدث عن الاهتمام بالذات فهو يتحدث بكلام يتناسب مع ثقافته وحياته، لأن الشخص الأجنبي عندما يبلغ عمره 15 عاما يستقل عن والديه، ولا يتواصل معهم إلا بالأعياد والمناسبات فقط، فتكون نفسه رقم واحد في الحياة وهمه إسعادها، أما الذي يؤمن بالله ورسله وكتبه، فإن عليه التزامات وواجبات تجاه والديه وأهله وأصدقائه وحتى جيرانه، فالمعادلة مختلفة بيننا وبينهم.
قالت: لقد لفت نظري أمر لم أفكر به سابقا، بل إني تعلمت في الدورات ألا أساعد شخصا لا يستحق المساعدة، ولا أهتم بشخص لا يبادلني نفس الاهتمام، ولا أخدم شخصا لا يقدر خدماتي له إلا لو رد إلي الجميل، قلت: فأين إذن العمل لله تعالى ونيل الثواب من هذه الأعمال؟ نعم نحن لسنا مغفلين ولا ساذجين، ولكننا كذلك واعون ونعرف متى نقدم الخدمة للناس في الوقت الصحيح، على أن يكون عملنا في الأساس من أجل الله وليس من أجل الناس، فنحن لا ندعو لعدم المبالاة، ولا نلغي الاهتمام بالذات، لأنها من صميم ديننا، ولكننا نشجع التوازن في التعامل مع الذات، فنكتشف ذواتنا ونهتم بها ونقدرها، ومع هذا لا نهمل واجباتنا تجاه أهلنا ومجتمعنا.
إن ديننا يشجع على ثلاثية العلاقات وهي: (إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حق، ولأهلك عليك حق)، فالأصل أن نحقق المعادلة بين العلاقات الثلاث (العلاقة بالخالق، والعلاقة بالمخلوق، والعلاقة مع الذات)، فنحن نعطي الذات ثلث الوقت في الحياة الدنيا، وفيها نقول استمتع مع نفسك، العب رياضة، وتناول القهوة، وشاهد فيلما، وارسم لوحة، واعمل مساجا، ونم مرتاحا، ولكن بقي ثلثان ينبغي ألا نهملهما، وهما الأول العلاقة بالخالق، وفيها العبادة والمعاملات والتزامات كثيرة مبينة في الفرائض والسنن، والثانية العلاقة بالناس والمخلوقين، ومنهم الأهل والأقرباء والزوج والأبناء، وفيها كذلك التزامات أخرى.
قالت: أعجبتني هذه الثلاثية التي لم أسمعها في الدورة التي حضرتها، ثم قالت: وما رأيك بما تعلمته كذلك، وهو أن (لا أكون شمعة تحرق نفسها لتنير الطريق للآخرين)، قلت: إن الذي علمك هذه الجملة كان عليه أن يفرق بين أمرين: الأول ربما سعادتك في أن تضحي بوقتك ومالك لخدمة الناس وإسعادهم، ففي هذه الحالة ستكونين سعيدة عندما تحرقين نفسك من أجلهم، والثاني يعتمد على من هم الآخرون؟ فلو كان والدك أو والدتك أفلا يستحقون أن تحرقي وقتك ومالك وصحتك من أجلهم؟ قالت: كلامك صحيح، وأنا لم أفكر بهذه التفاصيل، قلت بل نحن في معتقدنا أن نحرق حياتنا من أجل الله تعالى، لأن الحياة الحقيقية هي الآخرة، وإلا كيف تفسرين من يقدم نفسه وروحه لله ويكون شهيدا؟!
سكتت تفكر بما أقول، فقلت: والآن اهتمي بذاتك وزوجك وأهلك وأولادك، وابتعدي عن أكذوبة (إن الاهتمام بالذات يكون على حساب الأولاد والبنات)، فنحن لم ننجبهم من أجل أن نتركهم، بل أنجبناهم ليكونوا خلفاء بالأرض، ويتحملوا أمانة تبليغ الرسالة، وهذه تحتاج منا لجهد ووقت وتضحية وتعاون حتى نؤدي الأمانة، فارجعي لبيتك وخططي لدنياك وآخرتك، واهتمي بنفسك وصحتك وإيمانك، وستكونين سعيدة بحياتك.