التمويل الأصغر…هامش المرابحة يأخذ عرق الكادحين

صباح (السبت) الماضي وأنا أنظر إلى وجهي في المرأة… هالني ما اعتلى رأسي من الشيب… الأمر الذي دعاني لمراجعة عمري والذي وجدته تعدى الـ(37) عاماً… فحدثتني نفسي: (يا زول ألحق نفسك شوف ليك بت حلال)…
كيف؟ والشيلة بالشي الفلاني… والمهر… والصالة… والجرتق… والفنان…ووو…هكذا حكى الشاب “عبد العظيم” لـ(المجهر)… وأضاف: وأنا غارق في أحلامي المستحيلة تلك.. يدخل علي صديقي “عادل” ليخبرني عن امتلاكه لعربة بالأقساط من  بنك… وقبل أن أقول له  (مبروك)، عاجلته بالسؤال: ناسك ديل ما عندهم عروس بالتقسيط؟… ضحك وأردف: والله أنا  قريت خبر عن تمويل  مصرفي ، بمبلغ يتراوح بين 20 ألف الى 150 ألفاً ، بهامش ربح قدره 12%.  وقال :كل المطلوب من العريس، حساب توفير أو جاري، و أن يرافقه والده ووالد العروس عند طلب التمويل، مع دفع مقدم قدره (15%) من مبلغ التمويل..!!
ظن “عبد العظيم” بعد سماعه لهذا الإعلان أن كل أحلامه قابلة للتحقيق… فقادته خطاه إلى أحد أفرع  البنك ، وهناك دله موظف الاستقبال على أن هذا الإجراء يتم بالرئاسة.
أسرع “عبد العظيم” في خطواته ليلحق بالبنك قبل إغلاقه… وعندما وقف أمام بوابة البنك الزجاجية انفتحت أمامه في يسر (بمجرد شعورها برغبته في الدخول)… وبالداخل أرشده موظف الاستقبال (أول باب يمين ثم أول مكتب يمين).
وفي الداخل التقى الموظف المسؤول، وعندما استفسره عن كيفية التمويل، كانت خيبة الأمل كبيرة لـ”عبد العظيم”، إذ وجد أن ما معلن عنه غير متوفر، والمتوفر مستحيل تحقيقه… إذا قال له الموظف: (المطلوب، خطاب مرتب من المؤسسة التي تعمل بها، وأن تكون تلك المؤسسة حكومية، وأن لا يقل صافي المرتب عن (1000)، والتمويل يمنح فقط للصالة، بعد إحضار فاتورة من الصالة).
وقال “عبد العظيم” لموظف التمويل: (طيب لو ما عاوز صالة، عاوز قروش الصالة أعرس بيها؟ ).. رد الموظف: (نحن ما عندنا غير تمويل صالة الأفراح).. رد “عبد العظيم” في حزن: (يعني ما نعرس؟!)…ضحك الموظف وقال له: (الله كريم)…
تلك  كانت المفارقة  المحزنة المضحكة في  تمويل الزواج… أما عن مفارقات التمويل الأصغر  بالبنوك فنحكي أدناه:
تعريف وتحريف
وفق لائحة تنظيم عمل مؤسسات التمويل الأصغر لسنة 2011م الصادرة عن البنك المركزي عرف التمويل الأصغر بأنه: (كل تسهيل مالي أو عيني ممــنوح للفقير النشط اقتصادياً أو لمجموعة من الفقراء النشطين اقتصادياً وفقاً لما يقرره البنك بحسب أحكام الشريعة الإسلامية).
وأسقط أحد البنوك  فقرة (بحسب أحكام الشريعة الإسلامية) الواردة في تعريف بنك السودان.
الفئات المستهدفة
عملاء التمويل الأصغر هم  (صغار منتجين، الحرفيون والصناعات اليدوية، صغار مهنيين، خريجون، ربات الأسر، صغار مزارعين، طلاب، معاشيون، موظفون وعمال محدودي الدخل)، بالإضافة للنقابات والاتحادات المهنية.
وعرف بنك السودان المركزي (عميل التمويل الأصغر) بأنه الفقير النشط اقتصادياً الذي له دخل شهري يقل عن ضعف الحد الأدنى للأجور، أو يمتلك أصولاً منتجة قيمتها أقل من (10) آلاف جنيه ولا يستفيد من التمويل بالمؤسسات الرسمية، وحدد له السقف التمويلي بـ(10) آلاف جنيه كحد أعلى.
الفئات المستهدفة: عملاء التمويل الأصغر من كل قطاعات المجتمع في الريف والحضر (منتجون – حرفيون- مهنيون – خريجون – ربات الأسر – مزارعون – طلاب – معاشيون – موظفون و محدودو الدخل).
ويمنح التمويل الأصغر للشخص النشط اقتصادياً وله دخل شهري لا يقل عن ضعف الحد الأدنى للأجور، أو له أصول منتجة لا تزيد قيمتها على عشرة آلاف جنيه، ولا يستفيد من مصادر التمويل الرسمية.
والسقف التمويلي للفرد في المنطقة الحد الأعلى لتمويل الفرد (20) ألف جنيه، بحيث يكون (أصل التمويل + الأرباح لا يتجاوز الـ(20) ألف جنيه.
و للمنظمات والجمعيات لا يتجاوز مبلغ الـ50.000 جنيه، مع اعتماد مبدأ التدرج في التمويل (البداية بمبالغ صغيرة تتكرر وتزيد حسب الأداء).
و المجموعة التضامنية، هم مجموعة من عملاء التمويل الأصغر تجمعهم المنطقة (سكن أو عمل) يتراوح عدد أعضائها من (15-20)، يشرف على تكوينها موظفو الفرع، ويلتزمون بمسؤوليتهم بالتضامن وكأفراد في سداد التمويل الممنوح لهم وذلك كضمان للحصول على التمويل الممنوح لهم)، والسقف التمويلي للمجموعة (20) ألف جنيه، زائد مصروفات التأمين أو أي مصروفات أخرى وهامش الربح (14%) للعام .
ولا تتعدى فترة السداد عامين كحد أقصى مع فترة سماح تتراوح بين شهر إلى ثلاثة أشهر حسب طبيعة المشروع. ويجوز عدم دفع الزبون قسطاً أول (فوري).
عزيزي طالب التمويل… لا تخدعك تلك الأرقام، فالتمويل الذي يمكن أن يمنح لك لا يتعدى الـ(10) ألف جنيه بعد (مساسقة) وإجراءات معقدة أو مطالبات مستحيلة.
تجارب وعبر
ويحكي الشاب “المعز فوزي” أنه أخذ تمويلاً من بنك الأسرة، وقال إن أولى العقبات كانت في تعقيد الإجراءات (أمشي وتعال جيب وجيب)، بعد داك الزيارة التي يجب أن تتم من أحد موظفي البنك و(هااااااااااااااااااك يا جر جرة)، وعندما تم التصديق بالتمويل كانت المفاجأة  أنه لم يتعد  الـ(7) آلاف جنية لتمويل دكان مستلزمات منزلية،  قال :”ألزموني أن أشتري كل أصناف البضاعة من شخص واحد، وعند تسلمي ورقة تسليم الأقساط الشهرية، تفاجأت بأن هامش المرابحة (32%)… يعني أن أرباحي في المشروع أدفعها للبنك (هامش مرابحة)… الأمر الذي جعل مشروعي يواجه عقبات.”
الخريج “صالح” يوافق “المعز” في جميع ما ذهب إليه،  ويقول إن البنك بعد أن منحه التمويل (8) آلاف أصبح يلاحقه بالتلفون من أجل الأقساط ، والتي كثيراً ما يعجز عن سدادها بسبب هامش المرابحة العالي،  والذي يزيد عن (32%)، والموظف المسؤول لا يهمه نجاح مشروعك بقدر اهتمامه بتحصيل إيراداته، ويهددك بأنه سيقوم بإجراء قانوني للشخص الضامن حتى تضطر للاستلاف ،ودفع القسط.. وقال في أسف: (والله ندمان شديد على أخذي للتمويل.  والله لو عارفو كدا ما كان شلته).
أما “أميرة الطيب” فتشير إلى أنها حصلت على تمويل من البنك ، على الرغم من قلته إلا أن هامش المرابحة العالي جعلها تجتهد فقط لسداد الأقساط والتي تأخذ جل ربحها…
وتتفق معها “أحلام بابكر” والتي أكدت أن هامش المرابحة العالي أضر بمشروعها الإنتاجي،  رغم قلة التمويل الممنوح لها، الأمر الذي جعلها تعمل لعامين بلا فائدة.
البنوك الكناتين
وزير المالية الأسبق الدكتور “عزالدين إبراهيم” قال لـ(المجهر) إن المنشور الشهري الدوري الصادر عن بنك السودان المركزي هو الذي يحدد نسبة هامش المرابحة، وهي نسبة لا تتعدى الـ(12%) الآن، ومنشور بنك السودان المركزي الموجه إلى البنوك لترتشد به ، هي غير ملزمة بتطبيقه.
وأبان “عز الدين” أن نسبة هامش المرابحة دائماً تتساوى مع نسبة معدل التضخم، وإذا تعدى الهامش الـ(13%) يكون غير مناسب.
ويؤكد “عز الدين” أنه على طالب التمويل التأكد أولاً من هامش المرابحة، فالبنوك التجارية مثل المحال التجارية هامش المرابحة يختلف عندها حتى لا يهزم فكرته التي طلب من أجلها التمويل.. فلابد أن يراعي أن التمويل عند تشغيله يغطي هامش المرابحة وزيادة.
وأبان أن المعمول به الآن بالبنوك هو هامش المرابحات المتناقصة.
ويرى عضو هيئة الرقابة الشرعية ببنك (الثروة الحيوانية) “مصطفى آدم “وجود تحديات فقهية حقيقية عند تنفيذ صيغ المرابحة كصيغة المرابحة للأمر بالشراء، لافتاً إلى ما يواجه العاملون من مشكلات في توقيت إثبات العملية التمويلية وبداية احتساب أقساط سدادها.
وطالب “آدم”- في تعليقه لـ(الجزيرة – نت) بمعالجة أخطاء تنفيذ الصيغ الإسلامية في كافة المصارف والهيئات الاقتصادية والاستثمارية بالسودان.
وقال  الباحث الاقتصادي “د. المكاشف الخضر الطاهر” إن خطط وبرامج التمويل الأصغر لم تنجح في تحقيق سوى 10% من المستهدف، مما يعني أن مشروع التمويل الأصغر هذا منذ أن بدأ في العام 2006 أخرج 14% فقط من الذين يعيشون في فقر مدقع إلى دائرة الفقر العادي، يعني أن هذا المشروع لو سار بهذه الوتيرة السلحفائية، فسوف ننتظر 40 عاماً ليخرج لنا مَن في الفقر المدقع إلى الفقر العادي.
رئيس وحدة التمويل الأصغر ببنك السودان المركزي، بروفيسور “بدر الدين عبد الرحيم إبراهيم”، قال إن الرؤية الإستراتيجية لبنك السودان المركزي شكلت الخطوة الأساسية والمهمة لقيام قطاع مستدام ومتين في السودان، إلا أنها كانت تحتاج إلى إستراتيجية شاملة لكل الشركاء تعمل على سد الثغرات وإدخال كل شركاء القطاع في هذه المرحلة. نتيجة لذلك قام المجلس الأعلى للتمويل الأصغر بتوجيه وحدة التمويل الأصغر ببنك السودان المركزي بوضع إستراتيجية قومية شاملة لتنمية وتطوير القطاع 2013-2017.
قيود وقيود
بالرغم من الجهود والترتيبات التي قام بها البنك المركزي بشأن تنمية وتطوير صناعة التمويل الأصغر، لم يحقق أداء التمويل الأصغر التغطية والانتشار المتوقع له برغم وجود إستراتيجية قومية تتبناها الدولة ويدعمها البنك المركزي، حيث يرى بعض المتخصصين أن الممارسة الفعلية لتنفيذ إستراتيجية تنمية وتطوير قطاع التمويل الأصغر لم تقم على الأسس السليمة التي تؤدي لنموه وتطوره كصناعة من شأنها توفير فرص العمل وزيادة الدخول وتحسين المستويات المعيشية للفئات الضعيفة اقتصادياً.
واقع الممارسة الفعلية يؤكد أن جل القطاع المصرفي ومؤسساته، مازالت تجارية النزعة والتوجه ولم تبارح حسن النوايا تجاه الشرائح الضعيفة اقتصادياً، بينما جانب الطلب تظل رغباته حذرة ومبادراته الرسمية محدودة جداً.
وشكل ارتفاع المصاريف الإدارية (3.51%) وارتفاع رسوم الجمارك والضرائب (68.11%). وما يقابل ذلك من هامش المرابحة ، لا يقل عن (15-32%) ، المفروض من قبل البنوك التجارية والذي  يضعف من العائد وينتهي أخيراً في ضعف الانتشارية ، والتى تهدد الاستدامة، أكبر معوقات ومخاطر التمويل الأصغر، لذا ظل سوق خدمات التمويل الأصغر سوقاً راكداً ومنقوصاً، وأبرز ملامح ذلك الانتقاص استمرار انكماشية الطلب،  في ظل شح الخدمات ومعاناة المنتجات المعروضة كساداً عالياً، لتبقى الفجوة بين (عرض كبير وطلب أكبر) متسعة جداً… والمحصلة بالأرقام الرسمية ،تفيد أن عدد المستفيدين من خدمات التمويل الأصغر لم يبلغ الـ(500) ألف مستفيد، بينما الطلب المحتمل يفوق 5 ملايين مستفيد.

 

 

المجهر السياسي

Exit mobile version