بعد طرحه للنقاش في لجنة الحريات بالحوار الوطني
لم تكن مناقشة لجنة الحريات بالحوار الوطني تغيير اسم (السودان) أمراً جديداً، فقد أثير بشدة عقب انفصال دولة الجنوب مباشرة. وتعالت أصوات تطالب بتغيير اسم السودان ودفعوا لتعضيد رؤيتهم بعدد من الأسباب التي يعتقدون أنها موضوعية وحقيقية، وتنزع في كثير منها إلى محاولات متتابعة لا ينقطع لهثها للفوز بعسل العروبة، حتى وإن أدى ذلك إلى نسيان كونه أقدم الأراضي التي شهدت حضارات إنسانية في العالم في مروي والبركل وكرمة. ولعل أكثر المتخندقين لصالح تغيير اسم السودان هو اعتقادهم أن الاسم أطلقه علينا آخرون بهدف وصف أرضنا بأنها البلاد التي يسكنها السود، وبعد انفصال الجنوب مباشرة دعت “وصال المهدي” حرم “حسن الترابي”، القيادية بحزب المؤتمر الشعبي الحاكم في السودان إلى تغيير اسم السودان بعد الانفصال، مشيرة إلى أنها كانت تحتج على اسم السودان منذ وقت طويل.
ورغم أن “وصال” أكدت وقتها عدم ترحيبها بانفصال الجنوب، إلا أنها دعت إلى اغتنام الفرصة للجلوس والتفكير في اسم جديد للسودان.
وأضافت: (إذا انفصل الجنوب فلابد أن يكون لدينا اسم جديد غير السودان، فنحن عندنا ثقافة عربية إسلامية وبيننا قبائل أشد عُروبةً من تلك الموجودة في الجزيرة العربية ولا نريد أن يصبح اللون الأسود هوية لنا).
وحديث “وصال المهدي” ربما بقي في العقول والأذهان كثيراً، وربما داعب أحلام الكثيرين بأن انفصال الجنوب يعد سانحة جيدة وفرصة مواتية لتأكيد التشبث بما يعتقدون أن هويتنا العربية تفرض علينا اسماً جديداً يتسق مع المرحلة، ثم تمت إثارته مؤخراً في مؤتمر الحوار القومي، ووجد الأمر هوى لدى الكثيرين إلا أنه في الوقت ذاته وجد معارضة شرسة للغاية من كثيرين، يرون أنه لا يمكن بأية حال من الأحوال الانفصال من هويتنا وسحنتنا، بالإضافة إلى إفقادنا كثيراً من ميزاتنا التاريخية والإنسانية التي تميز السودان باسمه الحالي.
جدل هوية…وهوى..
اقترن ذكر بلاد السودان منذ قرون بعيدة بذلك النطاق الواسع من الأرض الذي يقع مباشرة جنوب مصر. وكان قدماء المصريين يطلقون اسم تانهسو على المنطقة التي تقع جنوب مصر ويعنون بهذا اللفظ بلاد السود، في حين ورد الاسم إثيوبيا في كتاب مرتين، وفي الأوديسة والإلياذة ثلاث مرات للدلالة على المنطقة ذاتها، وهو اسم مركب من لفظين باللغة الإغريقية وهما إيثو (aitho) بمعنى المحروق، وأوبسيس (opsis) أي الوجه، وبذلك يصبح اللفظ اثيوبيا Aethiopia (باللغة الإغريقية Αἰθιοπία) مرادفاً لبلاد الوجوه المحروقة أو البشرة البنيّة أو السوداء اللون.
وهذا التوصيف لاسم السودان يؤكده الباحث محمد حسن الركابي من مركز دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا الذي قال في حديثه لـ(المجهر) أمس، إن اسم السودان كان يطلق على كل الأماكن التي تمتد من البحر الأحمر حتى المحيط الأطلنطي، وهي المنطقة التي يقطنها سكان سود البشرة، مبيناً في الوقت ذاته أن تغيير الاسم الآن لن يغير من الأمر شيئاً، معتبراً أن لجنة الحوار كان من الأفضل أن تركز على الأشياء التي تحقق استقرار السلطة والاتفاق على حكم البلاد. وأضاف قائلاً: (نحن السواد ده ماشين منو وين؟)
لاقى مقترح تغيير اسم السودان اهتماماً كبيراً عبر مواقع التوصل الاجتماعي، ورغم استنكار الكثيرين لمجرد التفكير في أن تغيير الاسم من الممكن أن يمس ما اعتبروها ثوابت دعا الحوار الوطني إلى إعادة النظر فيها مثل (نشيد العلم) وألوان العلم، إلا أن آخرين استمرأوا الفكرة واعتبروها تمثل خطوة إيجابية نحو التغيير للأفضل. وقال الكاتب ورئيس منبر السلام العادل “الطيب مصطفى”: والله إن لم يكن هناك سبب لتغيير اسم (السودان) غير أنه لم يأت باختيارنا إنما باختيار آخرين تعييراً لنا وتبخيساً وانتقاصاً من شأننا لكان ذلك كافياً لإعادة النظر فيه، سيما وأنه لم يمنح حكراً للبقعة الجغرافية الحالية التي احتفظت به دون الآخرين مسمية نفسها به. وتابع: لا أظن أن هناك من يجادل في أن المعنى التاريخي للاسم ما أطلق إلا من منصة العداء ولا يحتاج ذلك إلى كثير شرح. واستطراد فإطلاق صفة (السواد) حتى الآن تستبطن انتقاصاً في كل لغات العالم بما في ذلك المعايير الدولية المتعارف عليها فالقائمة السوداء (Black list) مثلاً تعبر عن القائمة المحظورة أو المنتقصة من حيث المكانة، والصندوق الأسود لم يمنح ذلك الاسم لأن لونه أسود وهو ليس كذلك إنما لأنه يفصح عما جرى في لحظات (مأساة) سقوط الطائرة، والأمر لا يحتاج إلى كثير شرح وإبانة فلماذا نرضى لأنفسنا موضع التحقير والانتقاص ونحتكر دون غيرنا من بين كل شعوب أفريقيا التعبير عن اللون الأسود (لون الحداد على الأموات)!
ويعتقد مناصرون لتغيير اسم السودان أنه تم إطلاق الاسم علينا من الغير
وأن اسم بلاد السودان لم يكن يطلق على مكان محدد جغرافياً بل اتسع ليشمل كل الأرض جنوب مصر، وأن الاسم لا يخلو من نكهة عنصرية وأن الاسم لم يراعِ لأي خصائص أخرى سوى اللون وأن اسم السودان صفة ووصف لشعب أكثر من أن تكون اسماً دالاً على دولة. وليس من الحكمة اختزال بلد كامل بلون ساكنيه.
ولكن المدافعين عن بقاء الاسم كما هو يعتقد الكاتب محمد بحر بقوله أن اسم السودان يرمز إلى السواد وهذا هو الأصل ويجب أن يبقى كذلك، فالهوية والأسماء لا تحددها هويات المجتمعات البشرية القادمة من الخارج بل تتحدد بانتمائها الترابي وبلغة خاصة بهذا الأرض، والسودان منطقة أفريقية تنتمي إلي أرض أفريقية وليس إلى أرض عربية في المشرق وفي قارة آسيا منبت العرب أجمعين، وهذا أرض السود في الأساس والمحصلة تكون السودان بلداً أفريقياً في أرض أفريقي هويتها أفريقية واسمها ناتج من سواد سكانها، ويجب أن يتمتع جميع شعوبها بالعيش والانتفاع من أرضها سواسية سواء كانوا أصليين أم قادمين من الخارج بيضاً كانوا أم سوداً ويتشاركان في إدارة مواردها الوفيرة ، ولكن تغير الأسماء يعني تزوير التاريخ والقفز فوق الحقائق والمنطق، وهو ما يعضده الركابي في خاتمة حديثه لـ(المجهر) بقوله: منطقة الحزام جنوب الصحراء كلها لونها أسود وحتى مسألة الهوية نحن هويتنا عربية أفريقية، لافتاً إلى أن اسم السودان جيد ومتعارف عليه والحضارة التي كانت موجودة في السودان والفراعنة السود من الأسرة (25) حكموا مصر وتمثل الحضارة التي أقاموها أقدم من الحضارة المصرية.
ثم ماذا؟
تبقى قضايا الهوية والحكم والسلطة والتعايش السلمي والتنمية المتوازنة من أكبر التحديات التي تواجه البلاد الآن، وثمة من يرى أن الاسم لن يضر كثيراً في حال بقي على حاله، لأن تغييره من الممكن أن يهدر كثيراً من الطاقات التي كان من الممكن استثمارها فيما ينفع الناس والعباد. ويرى مراقبون أن استهلاك طاقات الناس والدولة في مثل هكذا أمور يعتبرونها هامشية من الممكن أن تشغل الناس عن قضاياهم الأساسية في وضع تصور متكامل لحياة أفضل، كما أن كثيرين يعتقدون أنه حتى لو توافق الناس على ضرورة طرح استبيان لتغيير الاسم فلابد أن تكون من الأشياء التي تؤجل، إلى حين الفصل في القضايا المفصلية والمهمة التي عادت بالبلاد عقوداً طويلة كان من الممكن استثمارها بأفضل مما كان.
تقرير- محمد إبراهيم الحاج
صحيفة المجهر السياسي