{ داخل صيدلية بمدينة “بحري” حوالي الساعة الحادية عشرة ليلاً قبل ثلاثة أيام، هممت بتقديم الروشتة للصيدلاني عندما أنهى حواره مع سيدة خمسينية، سألها بعد أن أحضر صندوق العقار المطلوب: (عاوزة علبة كاملة ولّا شريط؟)، سؤال صار معتاداً في كل صيدليات السودان كل يوم مئات المرات، ردت عليه: (شريط). أخرج الشريط من العلبة، وانتقل لي ريثما تستكمل السيدة الوقورة قيمة الشريط. وفي الأثناء، لم أسمع الحوار الهامس بين السيدة وابنها الصغير، لكني فهمت أنها لم تستطع تكملة مبلغ (85) جنيهاً قيمة شريط واحد!!
{ أرسلت ابنها لأخيه أو ربما قريبهم المرابط داخل (ركشة) بالخارج، تابعت عبر الحاجز الزجاجي مشهد مفاوضات قاسية لإكمال (85) جنيهاً لا غير!!
{ الصغير جاء لأمه خائباً بـ(25) جنيهاً فقط، فخرجت هي بنفسها إلى (الركشة) لتدير جولة مفاوضات أخرى (غير رسمية) مع ابنها الأكبر لجمع مال الشريط!!
{ قررت حينها أن أنادي عليها وأتكفل بالـ(85) جنيهاً بعد أن صدمني المشهد المأساوي، وتأسفت لحال السيدة والمريض الذي تسعى لجلب الدواء له، حزنت لكل حال البلد الحزين.
{ شغلني الصيدلاني بأن وضع أمامي ما طلبت وكانت قيمة الفاتورة لـ(4) حقن لأحد أقاربي مبلغ (340) جنيهاً!!
{ التفت إلى مكان (الركشة)، لم أجد أحداً، عادوا أدراجهم من حيث أتوا، فقد عجزت أسرة كاملة (بركشتها) عن سداد أقل من مائة جنيه لإنقاذ مريض ربما يتلوى من الألم في البيت أو حوادث “بحري”.. لا أعلم!
{ لكني أعلم وغيري يعلم أن آلاف الحالات من هذا المشهد تتكرر كل يوم في مستشفيات وصيدليات السودان، فمن المسؤول عن إقالة عثرة هؤلاء المحتاجين الملهوفين؟! لا تقولوا لي: ديوان الزكاة و(مية جنيه) لدعم الفقراء!!
{ يحدث هذا في وقت يحرر فيه وزير المالية سلعة الغاز بدم بارد لترتفع إلى ثلاثة أضعاف سعرها القديم.
{ ليس بالضرورة أن يحتج الناس بأية وسيلة على الزيادات، ليس مهماً أن ينتفض البرلمان ويسخط.. يثور ثم يهدأ، ليس مهماً أن تكتب الصحف منتقدة هذا القرار المعيب شكلاً ومضموناً، لا ينبغي أن يكون حجم ونوع الاحتجاجات هو المقياس والمعيار لمدى قبول المواطنين لأي قرار من هذا النوع، بل الأهم أن تكون للدولة آليات قياس و(قرون استشعار) خاصة متغلغلة وسط الشعب لقياس درجة حرارته!
{ في بيتنا، لا ننتظر أن تصل درجة حرارة صغيرتي لمستوى (الهضربة) فنجري بها لأقسام الحوادث كما يفعل الكثيرون، لا نعتمد على لمس (الجبهة) باليد لنعرف هل هي (محمومة) أم لا، فهناك جهاز صغير ورخيص متوفر في الأسواق لقياس درجة حرارة المريض، مثل هذا الجهاز مهم في بلد الحميات الأعظم.
{ عندما تصدر الحكومة قرارات اقتصادية عسيرة الهضم كقرار تحرير الغاز، عليها أن تقيس درجة حرارة الشعب أولاً، حتى لا تأتي (الهضربة) بغتة، ويحدث هبوط حاد في الدورة الدموية، ليس بالضرورة أن يصرخ المريض من شدة الألم، فقد يموت دون أن يصرخ.. وقد يموت دون أن يشعر بالألم!!