“السودان يتدحرج نحو التطبيع مع إسرائيل”، هكذا عنون الكاتب الفلسطيني نقولا نصيف مقالاً، غزا مواقع الإنترنت طوال الأيام الماضيات، وهو يسوق الدلائل على أن الخرطوم تتجه بقوة صوب علاقات مع تل أبيب.
ولم يتحرج الكاتب في السؤال عن مصير العلاقة مع الفلسطينيين والدفاع عن قضيتهم التي طالما تولى السودان صدارة المشهد في المسيرات المنددة بالعدوان على المدن الفلسطينية واستقبال قادة المقاومة الإسلامية “حماس” سراً وعلانية، علاوة على توفير دعومات أخرى لمقاومة الاحتلال.
والشواهد التي استدعاها الكاتب نيقولا واستمد منها عنوان مقاله تمضي بقوة إلى تأكيد ما ذهب إليه من أن السودان مقبل على تحول ما في علاقته بدولة الكيان الصهيوني.
فالرجل أشار إلى وقائع موثقة بدءاً بحذف عبارة “صالح لكل الأقطار عدا إسرائيل” من النسخة الجديدة لجوازات السفر السودانية الإلكترونية، لأسباب بررت لاحقاً بأنها تتصل بحجم الختم، وانتهاء بتصريحات وزير الخارجية إبراهيم غندور التي جعل فيها الباب موارباً أمام إمكانية دراسة الرأي الداعي للتطبيع مع إسرائيل كمدخل لإصلاح العلاقات السودانية الأميركية.
دعوات عديدة
وبرغم أن دعوات عديدة أطلقت في وقت سابق للتطبيع مع إسرائيل كان بطلها قبل نحو أربع سنوات، أحد قيادات المؤتمر الوطني الوالي السابق للقضارف كرم الله عباس الشيخ، إلا أن التعامل معها تم بحسم بائن ربما كانت محصلته أنها كلفت الرجل منصبه وزعامته، هو الذي اشتهر بمنافاته لقيادة التنظيم والاحتكاك بغالب النافذين في المركز.
ثم كانت المفاجأة حين طرحت الدعوة للتطبيع مع إسرائيل، في لجنة العلاقات الخارجية بمؤتمر الحوار الوطني، وتبناها حزب “المستقلين”، وهو الذي لم يتورع عن طرح الدعوة مستفيداً من المساحة المطلقة الممنوحة لكل حزب في إبداء ما يشاء.
والحال هكذا ظل يمضي داخل اللجنة مابين شد وجذب، الى أن جاءت المفاجأة الثانية وأبواب قاعة الصداقة تفتح على مصراعيها للناشطة الحقوقية المعروفة المقيمة في كندا، تراجي مصطفى، ويتم تصنيفها كشخصية قومية.
ومعروف عن تراجي أنها هي أول سودانية تؤسس جمعية للتطبيع مع إسرائيل، بل إنها زارت تل أبيب في سبيل تدعيم موقفها الذي لم تتوانى في المباهاة به كنصيرة لقضية دارفور.
فتح الأبواب
ودون اعتراض على خطوات الناشطة تلك، فتحت لها الأبواب في القصر الرئاسي لتجلس إلى الرئيس عمر البشير، وتجتمع إلى عراب الحركة الإسلامية حسن الترابي.
ثم وجدت تراجي نفسها في واجهة وسائل الإعلام الرسمية المملوكة للدولة في محاولة للتبشير بأن الحوار الوطني يستوعب كل الآراء دون حجر على أحد، ولو كان من ألد الأعداء يوماً ما.
وفي خضم الأحداث المتلاحقة، يظهر وزير الخارجية أ.د.إبراهيم غندور ومن داخل أحد المعاقل الرئيسية للحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني، وهو مركز دراسات المستقبل، ليعلن إمكانية دراسة الرأي الداعي للتطبيع مع إسرائيل كمدخل لإصلاح عطب العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية.
وبغض النظر عن السياق الذي قال فيه زعيم الدبلوماسية السودانية ذلك الرأي، فإنه يدعم بنحو ما، تفكير الخرطوم في تغيير استراتجيتها الخارجية.
فبروفيسور إبراهيم غندور كان بإمكانه حسم المداخلة التي تبرع بها القيادي الجنوب سوداني عبدالله دينق نيال والذي قال صراحة إن الطريق إلى واشنطن يمر عبر تل أبيب.
ربط الوقائع
وكان بإمكان غندور الرد عليه بأن ذلك أمر لا جدال فيه ويقول مثلاً إن التقارب مع إسرائيل “خط أحمر” ولن نلجأ إليه مهما كلفنا الأمر.. لكنه لم يفعل، بل ترك الباب موارباً وهو ما جعل الجميع يتلفت ويتكهن ويسارع إلى ربط الوقائع.
ومابين مصدق ومكذب لتصريحات وزير الخارجية تلك، يخرج وزير الخارجية السابق القيادي في المؤتمر الوطني مصطفى عثمان إسماعيل ليعزز من الظنون، وهو يحاول توضيح ما نسب إلى الوزير غندور، بأن يؤكد بدوره أن الأخير تحدث عن إمكانية دراسة الفكرة.
وذهب إسماعيل أبعد من ذلك وهو يقول إن موضوع التطبيع مع إسرائيل يطرح للنقاش بين الحين والآخر، ثم يستدرك بالقول إن النقاش حول التطبيع “أمر طبيعي… للتأكيد على أن عدم التطبيع من ثوابت الأمة السودانية”.
ومع اتساع دائرة الظنون، وتعالي أصوات أئمة المساجد الكبيرة، غضباً على تلك التصريحات واستنكار صدورها من قيادات الحزب الحاكم، يعمد المؤتمر الوطني إلى إصدار تصريح من الرجل الثاني في الحزب وهو إبراهيم محمود يؤكد فيه أن أجهزة الحزب لم تناقش يوماً مسألة التقارب مع تل أبيب” في أي اجتماع من اجتماعتها”.
مؤتمر الحوار
لكن في قاعة الصداقة، حيث مؤتمر الحوار، كانت لجنة العلاقات الخارجية تناقش المسألة ثم يكسب أعضاؤها تصويتاً بتأييد التطبيع المشروط مع إسرائيل ويكون ذات الأمر خبراً تنقله وكالة السودان للأنباء دون أي تحفظ.
ويقول عضو لجنة العلاقات الخارجية في مؤتمر الحوار إبراهيم سليمان: “لا نستبعد أن يكون التطبيع مع إسرائيل من ضمن التوصيات النهائية” لمؤتمر الحوار الوطني “وحال أقر الأمر فسيتم تضمينه في الدستور” الجديد الذي سوف يكون أهم مخرجات مؤتمر الحوار.
وسوغ سليمان دعوات التطبيع مع دولة الاحتلال بأنها تأتي في سياق تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة تمهيداً لرفع العقوبات الأميركية المفروضة على السودان، فقال: “الولايات المتحدة وإسرائيل وجهان لعملة واحدة، وإذا كانت الحكومة تشدد على إقامة علاقة مع أميركا فلماذا لا تقيم علاقات بإسرائيل؟”.
علاقات جيدة
ويشكك سليمان في موقف حزب المؤتمر الوطني الحاكم في الخرطوم بقوله إنه “غير واضح” لأن الورقة التي قدمها الحزب لمؤتمر الحوار، تقول إن الحزب “يرغب في إقامة علاقات جيدة مع كل الدول”.
إذاً، فأمر التطبيع مع دولة الكيان الإسرائيلي يداعب مخيلة بعض الساسة في السودان، وغالبهم ينحو إلى جواز إقامة علاقات “طبيعية” معها كما دول عديدة صديقة للسودان على رأسها مصر وقطر.
وليس شرطاً تعميق أواصر العلاقات وتبادل الزيارات بين المسؤولين لكن المهم أن لايتم استعداؤها وأن يتجاوز الناس حالة الكراهية الشديدة لتلك الدولة، مناصرة للقضية الفلسطينية خاصة إذا وضع في الاعتبار أن التواصل لم ينقطع بين الدولة الفلسطينية وإسرائيل بحثاً عن التهدئة.
لكن في المقابل يرى البعض الآخر، أن المزاج السوداني لايتسق مع فكرة التقارب بين الخرطوم وتل أبيب، من منطلقات غالبها عاطفية، أسيرة لما فعلته آلة الحرب الإسرائيلية بأطفال فلسطين، من تدمير وقتل.
قصف اليرموك
ثم يتعاظم المزاج الرافض ذاك مع تحميل الحكومة لإسرائيل مسؤولية قصف مصنع اليرموك للتصنيع الحربي في وسط العاصمة السودانية خلال العام 2012.
وقبلها اختراق الطيران الصهيوني للأجواء وقصف سيارة داخل مدينة بورتسودان بشرق السودان، واستباق ذلك بتدمير قافلة بتلك الجهات، وهو ما لم تعلق عليه إسرائيل حتى اللحظة نفياً أو تأكيداً، فتل أبيب الرسمية تبدو غير مهتمة أصلاً بمجاراة الاتهامات السودانية المتكررة لها، لكن كان لافتاً أن يبادر وزير الدولة بوزارة الدفاع الإسرائيلي إلي بن داهان إلى القول إن بلاده ترغب في إقامة علاقات مع السودان.
ويشير في حديث لموقع “ذا تايمز” إلى أن إسرائيل لاتختلف عن الغرب، أميركا والاتحاد الأوروبي، الذي يقيم علاقة مع السودان، وقال إن بلاده يمكن أن تقدم الكثير للسودان في العديد من المجالات.
بقلم: مزدلفة محمد عثمان
شبكة الشروق