لجنة الحريات والحقوق الأساسية في مؤتمر الحوار: إعادة النظر في النشيد الوطني وعلم البلاد واحتقار التاريخ..ايوب صديق

جاء في الأخبار، أن لجنة الحريات والحقوق الأساسية في مؤتمر الحوار الوطني، قررت إعادة النظر في تصميم العلم والنشيد الوطني للسودان. لقد استوقفني كثيراً هذا القرار الذي بدا لي عجيباً. فمما فهمته أن هذا المؤتمر منوطٌ به البحثُ في أفضل الطرائق لحكم البلاد، من جميع النواحي التي تنضوي تحت مظلة الحكم، ومن ذلك المحافظةُ على الجيد منها، وإصلاح ما يُحتاج لإصلاح، واستنباطُ جيدِ سُبلٍ تؤدي إلى ما يُرتجى من الخير. ثم بدا لي من القرار الأخير هذا، أن أعضاء هذه اللجنة قد استبدت بهم شهوة النقاش، فأرادوا تغيير كل شيء على وجه الإطلاق، طالما قيل لمؤتمرهم (إن قراراته ستكون أوامر). فموضوع إعادة النظر في النشيد الوطني، هو ما أدلي فيه برأيي الآن، أما العَلم الحالي فأنا سيء الرأي فيه جداً، وسيكون موضوع مقالي المقبل إن شاء الله.
إن هذا النشيد الوطني، الذي قررت اللجنة إعادة النظر فيه، منتخبٌ من قصيدة لشاعر البلاد المعروف أحمد محمد صالح عليه رحمة الله، وتلك القصيدة منشورة في ديوانه الذي عنوانه(مع الأحرار)، وعنوان تلك القصيدة هو:(نشيد الجيش)، وعدد أبياتها ثمانية وعشرون بيتاً أبياً. أُلف نشيدُ الجيش هذا وُلحن في عام 1954م. ومن نافلة القول إن كلمات النشيد الوطني، الذي جاء في الديوان بعنوان:( السلام الجمهوري السوداني) والذي يردده تلاميذ المدارس كل صباح هي:
نحن جند الله جند الوطن
إن دعا داع الفداء لم نخن
نتحدى الموت عن المحن
نشتري المجد بأغلى ثمن
هذه الأرض لنا
فاليعش سوداننا
علماً بين الأمم
يا بني السودان هذا رمزكم
يحمل العبء ويحمي أرضكم.
هذه كلمات النشيد الوطني. فمن ناحية نصه الشعري، نسأل اللجنة أيُ عيبٍ فيه يحملها على إعادة النظر فيه؟ أليست هذه المعاني التي ينطق بها النشيد، هي التي يتغنى بها جند الوطن باعتبارها واجبهم الأول؟ أفي هذا النشيد ما يعمل على الإضرار بالوحدة الوطنية؟ أفي معانيه مطعنٌ عَقدي؟ إن إعادة النظر في الشيء، تعني إما إلغاءَه لعدم الحاجة إليه، وإما استبدال شيءٍ آخر به. فأي الأمرين تريد اللجنة؟. أتريد إلغاءه بحجة أننا في بلد لم يعد يحتاج لنشيد وطني بعد المؤتمر؟ أم تريد استبدال نشيد آخر به؟ ففي حالة رأت استبدال نشيد آخر به، فما هو السبب الداعي إلى ذلك؟ هل تغير بنو السودان الذين يخاطبهم النشيد؟ اللهم إلا إن كان في خفايا ما يُسمى بـ(مخرجات) المؤتمر، تغيير اسم السودان، الذي يخاطب هذا النشيد بنيه، مما يدعو إلى نص شعري جديد، يخاطب بني الوطن ذي الاسم الجديد. فهو نصُ النشيد الحالي أمام السادة أعضاء اللجنة الذين رأوا كما يبدو لي، ألا يستثنوا شيئاً حتى وإن كان غير ذي عوج. فنرجو منهم أن يُبدوا لنا سبباً واحداً يدعو إلى إعادة النظر فيه، وهو الذي ظلت تردده أجيال هذا البلد على تعاقبها جيلاً بعد جيل، حتى يوم الناس هذا. فأي بيت فيه أو أي مقطع فيه، ذلك الذي لن يكون ملائماً للسودان الذي سيولد بعد مؤتمر الحوار؟
إنه يحسن بلجنة الحريات والحقوق الأساسية، أن تعالج ما هو أولى بالعلاج، وأن تبحث في ما هو أجدر بالبحث، وأن تترك بتر مسار تاريخ البلاد. فهل تتواضع هذه اللجنة وتنظر إلى البلاد الأخرى كيف تحافظ على إرثها التارخي باعتباره ليس لجيل واحد، بل لأجيال مقبلة، تشكل مع سابقاتها ولاحقاتها سلسلة مترابطة لتاريخ غير منقطع؟ وأضرب لها مثالين وهما السلامان الوطنيان البريطاني والأمريكي. فالسلام الملكي البريطاني أُلف عام1745، ولما كان على عرش البلاد آنذاك رجل، كان النشيد بعنوان (يحفظ الله الملك). ولما خلفته امرأة كان التغيير الوحيد الذي أدخل عليه هو(يحفظ الله الملكة). أما النشيد القومي الأمريكي فتاريخ اعتماده يعود إلى التاريخ 3/3/1931م، وكلا النشيدين بقي على حاله. فعلى أعضاء اللجنة، أن يقارنوا بين نشيدنا الوطني الذي ألف واعتُمد عام 1954، وبين النشيد الملكي البريطاني الذي أُلف واعتمد عام 1745، ومايزال البريطانيون يحافظون عليه باعتباره ارثاً تاريخياً، وملكاً لأجيال مقبلة، وكذلك بين النشيد القومي الأمريكي الذي ألف واعتمد في 3/3/1931 وماتزال الأمة الأمريكية تحافظ عليه باعتباره إرثاً تاريخياً وملكاً لأجيال مقبلة كذلك. ونشيدنا الوطني الذي ترمي هي إلى إعادة النظر فيه، فوق أنه جديد بالمقياس التاريخي، فهو يتمتع بقيمة تاريخية لا أدري إن كان أعضاء اللجنة يقدرونها.
فقد ألف كلماته كما قلنا رجل ذو مكانة سامية في تاريخ هذا البلد، ومن فحول شعرائه، هو أحمد محمد صالح عليه رحمة الله، ويكفي اسمه دلالة على مكانته.أما عن ملحنه فهو الموسيقي العسكري المعروف أحمد مرجان عليه رحمة الله، الذي يقول أحد المصادر غير السودانية عنه وعن النشيد الوطني الذي لحنه: ( إنه أحمد مرجان الذي ولد عام 1905 ودرس الموسقى في انجلترا وأسس معهد أهل التدريس الموسيقي في أم درمان، حيث جمع أرشيف الأناشيد الوطنية لجميع دول العالم، وقد حازت موسيقى هذا النشيد على جائزة أفضل تأليف موسيقى للأناشيد الوطنية حسب تقييم الجمعية العالمية للموســيقى International Music Institute في أمريكا عام 2004م هذا هو النشيد الوطني الذي تريد لجنة الحريات والحقوق الأساسية في مؤتمر الحوار الوطني ركله بحذائها، لسبب غير معروف. فلا تاريخ مؤلف شعره ومكانته الوطنية السامية، ولا تاريخ مؤلف موسقاه ومكانته في السجل الوطني والعالمي، حيث حاز على الدرجة الأولى عالمياً بين الأناشيد الوطنية، ولا المكانة التي يحتلها النشيد في نفوس الشعب السوداني، كل تلك المزايا والصفات لا تساوي شيئاً في نظر هذه اللجنة فماذا نقول؟ ولا غرابة في ذلك، فنحن في بلد يحتقر أبناؤه التاريخ. فحتى المقال المقبل إلى اللقاء، وإلى الله المشتكى..

الانتباهة

Exit mobile version