> نشأت فكرتُها الخلاقة المبدعة في سنة 1997م في أجواء مليئة بالأشواك والتعقيدات، شغلت أوساط الرأي العام بكثير من أحاديث الفكاهة والقصص والامتعاض والنقد اللاذع، ومحاولات إثارة كراهية الرأي العام عليها، حيث حاول آخرون غير عاقلين أن يضعوا حملاتها في بند انتهاكات حقوق الإنسان ومصادرة الحريات الشخصية!! ونعتها آخرون متطرفون بأنها الكابوس الذي أصاب شباب وطلاب السودان في مقتل، فذهب بإبداعاتهم وطوى صفحات مستقبلهم المشرق، وذهب فريق آخر من النقّاد والكتّاب ومحركي شفرات الأنس والمؤانسة الشعبية، بأنها شردت الشباب والطلاب من حقول العلم ومظان التعلم والدراسة، ومضى آخرون ليقولوا قتلت الشباب باسم الجهاد، نعم كل ذلك قِيل وجرى في وقت اُستعمل فيه مصطلح مفخخ لوصف هذه الخدمة «الوطنية»، بأنها الخدمة الإلزامية، ولك أن تضع ثلاثة خطوط فوق وتحت مصطلح «الإلزامية»، وعندها ربما تدرك أخي القارئ الكريم لماذا نصر دائماً وندعو في كتاباتنا إلى أهمية إدراك دلالة المصطلحات اللغوية في حياتنا، والإحاطة بأثرها الفكري والنفسي والاجتماعي والسياسي والثقافي على النفس الإنسانية؟
> من قصص الفكاهة والنوادر والطرف عندما «كبس» دفار الخدمة الإلزامية مستهدفاً مجموعة من الشباب كانوا جالسين، قام أحد أعمامنا الكبار هارباً مولياً الدبر كما فر الشباب الجالسون، وفي لحظة إطلاق ساقيه للهواء خاطبه أحد المارة بقوله: «يا زول جاري مالك الناس ديل عايزين الشباب»؟ فرد عمنا الهارب: «يا زول الناس ديل ما مضمونين.. يمكن يكونوا عازين ضباط برضو».. وأحد الشباب حين صعد أعضاء حملة الخدمة الإلزامية مركبة عامة وطلبوا من الركاب بطاقاتهم، وقال أحدهم لأحد الشباب بطاقتك.. رد يا زول أنا لو نزلت نتعبكم، فتوجس رجل الإلزامية من أن يكون هذا الراكب مسؤولاً نظامياً، لكنه استجمع شجاعته وقال له بطاقتك أو تنزل، فاختار النزول، وفي لحظة ترقب منهم ماذا يفعل بهم، فما كان منه لحظة نزوله إلا وأخذ حذاءه ثم «جفل» وأطلق ساقيه للهواء وسط ذهول الركاب ورجال الحملة الإلزامية.. وهكذا هناك نوادر كثيرة وطُرف.
> نكتب هذا المقال بين يدي انعقاد المؤتمر الثالث للخدمة الوطنية بالخرطوم الذي حددت له أيام الأول من فبراير وحتى الثالث منه لعام 2016م، تحت شعار «واجب الأوطان داعينا»، وتحت إشراف السيد وزير الدولة بوزارة الدفاع الفريق أول ركن يحيى محمد خير، ويشرف الجلسة الافتتاحية بالأكاديمية العسكرية العليا بأم درمان سعادة الفريق أول ركن بكري حسن صالح النائب الأول لرئيس الجمهورية.. أقول كما ترون كيف جاء شعار المؤتمر الثالث «واجب الأوطان داعينا»، ومن هنا يأتي التفسير الحقيقي والدلالة المصطلحية الحقيقية لمعاني وقيم ومنطلقات فلسفة الخدمة الوطنية، وليست الخدمة الإلزامية.. صحيح قد يكون صاحب هذه التجربة الرائدة الكثير من السلبيات والإخفاقات كحالة أية تجربة بشرية عند التطبيق العملي، لكن الأهم هنا أن ننظر إلى المحامد والقيم السامية التي أرستها تجربة ومدرسة الخدمة الوطنية في بلادنا، والسودان ليس بدعاً في هذه الناحية، فكثيرٌ من دول العالم حولنا تعتمد دور الخدمة الوطنية من ضمن المشروعات الوطنية للتربية والتماسك الداخلي، بل هذا عند الدول الكبرى يعد شرطاً مؤهلاً لتولي المهام الأصعب في الخدمة العامة، ففي أمريكا مثلاً كل الرؤساء الأمريكان الذين تعاقبوا على حكم أمريكا ـ تقريباً ـ أدوا الخدمة الوطنية وعملوا في الجيش الوطني الأمريكي، وهذا الأنموذج يكفي مثالاً لدور الخدمة الوطنية في بناء مشروعات الدولة الوطنية. كنتُ ممّن كان لهم شرف العمل في الخدمة الوطنية في سنواتها الأولى.. جئنا إليها عبر دورات أسامة بن زيد للدفاع الشعبي قبل انطلاق برنامج القرار «165» الذي قضى باستيعاب طلاب الشهادة السودانية في برنامج الخدمة الوطنية «عزة السودان»، حيث كنا نحن «حماة السودان» وتجولنا بين معسكر الشهيد محمد كباشي بولاية جنوب كردفان.. معسكر «تافيري» غربي مدينة كادقلي دورة أسامة بن زيد السابعة، ثم معسكر القاعدة الجوية، ثم معسكر الجيلي شمالي الخرطوم، ثم عملتُ بـ «117» إدارة إنهاء المدة مع الإخوان «بانقا» و «معتز»، ثم عملتُ بالرئاسة في الطائف مع الإخوان خالد جلال وإبراهيم جامع «ود اللواء» أيام الإخوان د. سعيد.. وجودابي.. ومحمد الحاج.. وسيف.. وموسى، ثم منسقية النقل والصيانة ومواقع أخرى، والذي أُريد قوله من هذه التجربة أن الناس والرأي العام كانوا ينظرون إلى الخدمة الوطنية من خلال استدعاء مصطلح إلزامية إلى الذهن، بأنها محض ألم ومعاناة وأيام قهر غير اختيارية، لكن الصواب عندي أن الخدمة الوطنية كانت أداة من أدوات بث الروح الوطنية والفدائية في نفوس الشباب والطلاب، ولعبت دوراً مهماً في ذلك، ومثلت رافداً من روافد التأهيل والتدريب والإعداد للشباب والطلاب عند مداخل الخدمة المدنية أو العسكرية من خلال الممارسة العملية، وأذكر أنه كان لدينا في تلك الأيام ما يعرف بالجمع الشهري في آخر خميس من كل شهر، لجميع المؤسسات والإدارات والمنسقيات والمكاتب في الساحة الخضراء، وكان فيه كثير من الربط والضبط وتجويد الأداء وتبادل الآراء والخبرات.
> والآن مع اقتراب انعقاد المؤتمر الثالث ـ « يوم غد الإثنين» ـ للخدمة الوطنية، تتحدث الأخبار عن مسألة إلغاء الخدمة الوطنية بمبررات تحسن الأوضاع الأمنية، ودخول مرحلة السلام، لكن عندي هذه الدعوات غير متعقلة، فهي أشبه بدعوات إلغاء الشرطة الشعبية والدفاع الشعبي التي سادت في بعض الأوقات، وكلها دعوات متهورة غير ذات جدوى، بل عندي تعد مثل هذه الدعوات محاولة ملامسة الخطوط الحمراء التي لا يمكن للمجاهدين القبول بمسها مهما كانت طبيعة التحولات السياسية والاجتماعية. إن من الضروري أن يناقش المؤتمر مسائل تطور أداء الخدمة الوطنية، حيث مازالت مطلوبات بقاء الخدمة الوطنية ماثلة حتى تحقق شعارها العام «جهاد.. بناء.. فداء»، لأن الجهاد سنة ماضية وباقية في الأمة إلى يوم الحساب، والبناء حاجة إنسانية ملحة دائمة مستمرة، والفداء.. أي وطن مثقل بالجراح ومحاط بالمؤامرات والفتن ومكايد الأعداء مثل بلادنا السودان؟ فلا بد من سواعد وعقول وطاقات بنيه في الخدمة الوطنية تبيت وتصبح سيوفاً بتّارة مشرعة في وجوه الأعداء.
> وتبقى الحاجة ملحة في المؤتمر الثالث، لايجاد منافذ ومواعين بالولايات لتقديم الخدمات لطالبيها بدلاً من السفر صوب الخرطوم.. خدمات كرت السفر.. وأمر التحرك.. الإفادة الطبية.. القمسيون.. التنسيب.. آخر صرفية.. خلو طرف.. وبطاقة أداء الخدمة.. وفترة أداء الخدمة التي حددت بسنتين لدون الثانوي، وبثمانية عشر شهراً للثانوي، وبسنة للمستوى الجامعي.. وتحتاج هذه المدد إلى زيادة مواعين الاستيعاب في المؤسسات وفقاً للتخصصات المختلفة، وذلك من خلال تطوير قانون الخدمة الوطنية الذي أُجيز في عام 2013م في ما يتصل بتخصصات الخريجين، ويحسب جميلاً للمؤسسة العسكرية التي استوعبت خلال العام الماضي ما يقارب ثمانية آلاف خريج عبر تخصصاتهم بحافز مجزٍ يصل إلى ما يقارب ألف جنيه، هذا مقارنة بمبلغ «50» جنيهاً كان يتقاضاه المجند في الخدمة الوطنية، وقد يقلص إلى ستة وأربعين جنيهاً، وإلغاء برنامج عزة السودان لنقص أعمار طلاب الشهادة السودانية عن عمر ثمانية عشر عاماً بعد تقلبات السُّلم التعليمي في البلاد شيء نؤيده، لكن يقتضي معالجة أوضاع الطلاب بعد تخرجهم في الجامعات حتى لا تحدث عمليات الهروب المقنن الذي يعطل تفعيل قانون الخدمة الوطنية.
> وتبقى الخدمة الوطنية شامة وغرة بيضاء على قوادم خيلٌ دُهمٌ، ونبلاً وشرفاً وبطولة وتضحية معطاءة تحرس ثغور الوطن من عوادي الزمان والأعداء، ومنهلاً طاهراً يسقي أفئدة شباب وطلاب السودان بجميل المكارم وشامخ المحامد، وذؤابة عزة وسؤدد على هامة هذا الشعب الأبي المجاهد.. أقول هذا ومازال في النفس شيء من حتى من ذكريات أيامي الخوالي في مدرسة الخدمة الوطنية، وتحية الوفاء والمساندة للإخوان القائمين اليوم على أمرها، وتهنئة حارة بحلول هذا اليوم التاريخي من أيام الخدمة الوطنية في بلادنا، وهي تقيم هذا المؤتمر الثالث والبلاد تتنسم عبق وشذى مخرجات الحوار الوطني «السوداني ـ السوداني» خالص الإرادة والتوجه، وتبقى الخدمة الوطنية فكرة راشدة ومبدعة فجرت الأمل والطموح في شباب السودان.
الانتباهة