«كون البعض أغنياء يثبت أن الآخرين يمكنهم أن يكونوا كذلك، وهذا يشجع العمل والصناعة» .. إبراهام لنكولن ..!
صحفي ألمعي ظل يمني النفس بحوار غير مسبوق مع الروائي الكولومبي الكبير ماركيز .. كان ينهب الخطى ماضياً إليه، وفي ذهنه تصور لجلسة فنية متقشفة تشبه عالم ماركيز الروائي، حيث المجد للفقير الكادح، والبطولة المطلقة للمظلوم .. وحيث لعنات الأدب الأبدية التي تنهال على رؤوس الأثرياء، الأدعياء، المتسلِّطين .. فما الذي حدث ..؟!
وقف الرجل البعيد عن واقع ماركيز الخاص ومحيطه الشخصي – البعيد كل البعد عن واقعيته السحرية – مشدوهاً عندما رآه وهو يترجل عن سيارة فارهة .. ويدلف أنيقاً منتعشاً من بوابة أفخر المطاعم .. كان الشعور بالإحباط هو ردة فعل الصحفي الذي تحول انطباعه إلى استفهام إنكاري مفاده أن كيف للمرء أن يكون مبدعاً وثرياً في آن معاً ..؟!
دهشة الرجل استفزت الكاتب العظيم فتبرع بمحاضرة بديعة مرتجلة عن ربط الإبداع بالفقر، وإنكار الناس على الكاتب الملتصق بقضايا الفقراء وهموم الطبقة الكادحة مظهر الرجل الثري .. محاضرة ماركيز تلك كانت هجمة مرتدة بكرة الاستفهام نفسه “لماذا تستكثرون الرفاهية على المبدع” ..؟!
ردة فعل ماركيز أعادني إليها حوار عاصف نشرته إحدى صحفنا المحلية قبل فترة مع مطرب سوداني شهير، تحدث فيه بمنطق مشابه يدخل في قبيل “مقام” دهشة ماركيز مع اختلاف لغة «المقال» بطبيعة الحال ..!
أي حوار مع ذلك المطرب الشهير يأتي بحزمة من التصريحات الصادمة والمستفزة لنزعة العقل الجمعي عندنا نحو افتراض تظاهر المبدع بالبساطة والتواضع .. بينما بين سطور تصريحاته الصادمة تلك – والتي يصفها معظم الناس بالغرور – تجد دوماً قدراً معقولاً من الموضوعية وإن كانت الصيغة – دوماً – غير جاذبة ! ..
وقد كان الرجل محقاً بما يكفي في تنديده بمسألة ربط الإبداع بالفقر واستكثار التقدير الفني على الموسر .. هذه النظرة المجتمعية يدخل في إطارها : المطرب والممثل والرسام والشاعر والكاتب .. إلخ كل الذين تمردوا على الأطر القوالب ودخلوا إلى غابات الفن والإبداع راضين ومرضياً عنهم ..!
يبدو أن اختفاء الطبقة المتوسطة بمعناها الحقيقي، وشيوع تبعات القرارات الاقتصادية الفاشلة، والمواقف السياسية الانفعالية، وانحشار هذا المجتمع في خانة الاستهداف .. إلخ .. قد أدى إلى تغيير”قماشة” فكرنا الجمعي وأثر سلباً على مسلماته السويَّة ..!
الكاتب يتملق القارئ بانتمائه إلى طبقة الكادحين وإن لم يكن منهم، وكأن فكره المضيء لا بد أن يأتي نتيجة احتراقه في أتون الفقر والعوز .. والأعمال الدرامية تتملق المشاهد الفقير بإصرارها على قصر المشكلات التي تعالجها التمثيليات والمسلسلات على الطبقة الكادحة .. حتى باتت سمة المبدع هي “القشرة” بالفقر ..!
رؤية الغالبية العظمى في بلادنا الفقيرة: أن الأغنياء بلا مشكلات حقيقية وأن مجتمعهم المخملي بلا قضايا جديرة بالمناقشة .. وأن الغني ميسور الحال شخص غير جدير بالعطف .. والكل يميل إلى تصديق أي سوء يقال عنه ..!
الغريب أن ذات الفكر الجمعي الذي يربط الإبداع بالفقر يحترم الثري في إطار كونه صاحب قوة ومنعة مادية وكفى .. أما الإبداع فبحسب فكرنا الجمعي هو جنة الفقراء التي لا يدخلها الأغنياء .. وهي على كل حال – وبكل أسف – حالة فصام مجتمعي تستحق الدراسة ..!