قديما قالها العقاد
شهدت الدوحة الأسبوع الماضي حدثا مهما ناقش قضية إستراتيجية تغوص غوصا في لٌب قضايا الأمن القومي العربي.. منتدى النهوض باللغة العربية الذي نظمته المنظمة العالمية للنهوض باللغة العربية، عضو مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، خرج بتوصيات من شأنها تعزيز تعليم اللغة العربية بين النشء، والنهوض بهذا اللسان ووضعه في المرتبة الجديرة به.
واللغة العربية تواجه اليوم تحديات عظيمة أقلها تسارع التطورات التكنولوجية على كافة الأصعدة، فضلاً عن طوفان العولمة، وضعف مناهج تعليم اللغة العربية، وتعلّق الأطفال والشباب باللغة الإنجليزية، لاعتقادهم بأنها تساير العصر بشكل أفضل كونها لسان التكنولوجيا المعاصرة، والإنترنت، والعلوم والفنون.
ولذا ظلت دعوات تحديث اللغة العربية متواترة تشكك في قدرة اللغة العربية على الاستيعاب وتوحي بعجزها عن التعبير والأداء، لتتوصل إلى أنه ينبغي أن يتعلم أبناء العرب في مؤسساتهم التعليمية بغير لغتهم. ففي سنة 1902م ألف قاضي محكمة الاستئناف الانجليزي (ولمور) في مصر كتابا اسماه «لغة القاهرة» ووضع فيه قواعد لتلك اللغة التي اقترحها لغة للعلم والأدب، واقترح كتابتها بالأحرف اللاتينية.
فكانت على الدوام محاولات قهر اللغات الوطنية هي إحدى الممارسات الاستعمارية لأجل الوصول إلى محو هوية الشعوب وفصلها عن حضارتها وثقافتها التي تعمق من انتمائهم وتربط بين أفراد الجماعة، سعيا لتعميق الفصل بين أبناء الوطن الواحد وخلق ثقافات جديدة متصارعة.
يقول محمود عباس العقاد في كتابه «أشتات مجتمعات اللغة والأدب»: إن الحملة على اللغة في الأقطار الأخرى إنما هي حملة على لسانها أو على أدبها وثمرات تفكيرها على أبعد الاحتمال، ولكن الحملة على لغتنا نحن حملة على كل شيء يعنينا، وعلى كل تقليد من تقاليدنا الاجتماعية والدينية، وعلى اللسان والفكر والضمير في ضربة واحدة وزوال اللغة العربية – لا سمح الله – لا يبقى للعربي أو المسلم قواما يميزه على سائر الأقوام ولا يعصمه أن يذوب في غِمار الأمم فلا تبقى له باقية من بيان ولا عرف ولا معرفة ولا إيمان.
وتحتم علينا المسؤولية اليوم وقف نزيف تدني التحصيل الدراسي، خاصة في اللغة العربية في المرحلتين الأساسيتين، فضعف تحصيل لغة الضاد، هو مقياس لضعف حصيلة المعرفة.. وهناك عروة وثقي بين العناية بحفظ القرآن وارتفاع مستوى اللغة العربية لدى النشء، وليس ذلك فحسب بل إن لذلك أثرا إيجابيا على سائر ضروب المعرفة.. في السودان أجريت دراسة حول رصد أثر حفظ القرآن الكريم على تحصيل اللغة العربية والتربية الإسلامية لدى تلاميذ مرحلة الأساس والمدارس القرآنية.. البحث عقد مقارنة بمدارس ولاية الخرطوم، لرصد الأثر السلوكي التربوي للفئتين ليكون أساساً لمتابعات مستقبلية توضِّح الفوائد المتراكمة في أطوار نمو التلاميذ كأجيال قادمة وتحفظ القرآن الكريم.. وأكد البحث أن التلميذ في نهاية الصف السابع يحفظ القرآن كاملاً في المدرسة القرآنية مقارنة برصيفه في مدارس الأساس بوزارة التربية والتعليم، حيث تميَّز تحصيل تلاميذ المدارس القرآنية في مادتيِّ اللغة العربية والتربية الإسلامية على رصفائهم تلاميذ المدارس الحكومية لمرحلة الأساس، ويعزى ذلك لإكمال الفئة الأولى لحفظ القرآن الكريم كاملاً في نهاية الصف السابع، بينما وصل حفظ تلاميذ الأساس الحكومي لنفس الصف دون العشرة أجزاء من القرآن.
لهذه الأسباب مارس الاستعمار البريطاني حربا شعواء على اللغة العربية وما كان يعرف بالتعليم الديني.. هذا هو السكرتير الإداري البريطاني أصدر منشورا في 25 يناير من العام 1930م قال فيه: “إن من المسلم به أن اللغة العربية أصبحت هي اللغة السائدة في كثير من أجزاء الجنوب، وينبغي بذل كل وسيلة لزحزحتها من مكانتها الحالية التي يعتبرها الجنوبيون لغة رسمية ولغة حضارة يتطاول بعضهم باستعماله”. وكلام المستعمر السابق فيه حقيقتان: الأولى انتشار اللغة العربية في الجنوب، والثانية خوف المستعمر منها باعتبارها وعاءً حضارياً.
في مصر أكدت إحدى الباحثات في دراسة حول كشف المتضمنات الثقافية والسياسية لقضية اللغة في العالم العربي، أن حيز الدين وليس الحيز البيروقراطي أو التعليمي أو الإعلامي، هو في الدرجة الأولى ما حافظ على استمرار وجود الفصحى في حياة السكان، وتبين، من خلال وصف الروتين اليومي لأسرة مصرية لا تتعاطى كثيرا القراءة أو الكتابة ارتباط الفصحى بالمناسبات الدينية وكيف يؤدي ذلك إلى تشكيل العلاقة العاطفية معها، ولقد كانت اللغة العربية فيما يعرف بالعصور الوسطى قادرة على الأداء والعطاء ووقفت الشعوب الأخرى منبهرة ومشدوهة أمام عظمتها وقدرتها على استيعاب العموم التي كانت مزدهرة آنئذ، فاضطروا إلى استخدام كثير من الألفاظ العلمية العربية في شتى علومهم ومازالت هي الأساس في معاجمهم العلمية.