قال لي إن أبي كان مزارعاً بسيطاً ولكنه كان فقيهاً كبيراً.. عالماً وعاملاً.. وقد بدأنا معه مرة زراعة حديقته (الجنينة) التي تقع على النيل مباشرة وعندما سوينا الأرض وأصبحنا على قرب الزراعة وقبل أن نبدأ بذر البذور أتانا مهرولاً وصائحاً وأمرنا بأن نوقف العملية.. صارخاً أنه لا فلاح مع معصية وإن صغرت..
فقلنا له سبحان الله يا أبي وأين المعصية ونحن لم نفعل أكثر من تهيئة أرضنا ونيتنا وأيادينا على بذر البذور..
فقال: لقد رأيت أن ما أخرجتموه من باقي حشائش والعقابيل والتراب قد دخل على (جنينة) جارنا الغائب فإذا بذرنا دون أن نزيل عنه أوضارنا هذه فإن الله لن يكتب لنا نجاحاً ولا لزرعنا.. وأعتبرناه أمراً وفعلاً ألقينا من على ظهورنا من آلات الزرع اليدوية وخرجنا وشاهدنا ما فعلنا في حق جارنا دون قصد أو نية ضرر مسبق.. ولما رأينا فعلاً إقتنعنا بنصيحة الوالد فعدنا إلى أدواتنا وحملناها وأصبحنا نعمل ليوم كامل حتى نظفنا حديقة جارنا تماماً وسويناها.. بل أنها أصبحت أكثر نظافة من أرضنا.. وكان أبي رغم عمره يعمل معنا في إخلاص ودأب حتى إذا ما أكمل عمله صلى بنا الظهر وجلس متهللاً وقال: الآن الآن استيقنت أنكم سترزقون رزقاً حلالاً طيباً كثر أو قل.
وفي لحظة صفاء حكى لنا قصة النبي سليمان الذي كانت الريح تسير به أنى شاء وتقطع به الفيافي والقفار والبلدان وهو في راحة وسكون ودعة وفي إحدى هذه الرحلات والريح تحمله بعيداً بعيداً وكان يومها يلبس قميصاً جديداً زاهياً لم يتدبر التواضع فنظر إلى قميصه نظرة زهو فكأنه أعجبه وتفاعلت النفس مع الهوى والاستعلاء الإنساني.. هنا وضعته الريح أرضاً ولم تتحرك وتعطل كل شيء في الرحلة والرحلة نفسها فقلق جداً الملك الرسول وقال للريح في شدة وحزم: لِمَ فعلت هذا ولم آمرك؟
قالت: يا سليمان إنما نطيعك إذا أطعت الله.. (لاحظ يا سليمان هنا مجردة) فظل سليمان يتطلع ويراجع ما فعله في يومه من قول وعمل فلم يجد غير أنه نظر إلى قميصه الجديد نظرة إعجاب.. وفي هذه وعندها وعلى صغرها جاءت النصيحة (إنما نطيعك إذا أطعت الله).
* عزيزي القارئ أليس هذا درساً نفيد منه ونستفيد في السودان؟
بالله عليكم كم مشروع قد توقف وكم مزرعة أصابها المحل وكم من مستشفى أغلق بالطبلة والضبة وقذفنا بالمفتاح الى حيث لا يعرف أحد وكم من مدينة سدت أبوابها وهاجرت وكم من منطقة صناعية جفت أو جُففت وكم مطر تمنّع وكم قرض ميسر وكم إتفاقية ذهبت مع الريح؟
توقف كل هذا وتوقفت كل تلك وأدنى ما فيها أننا نظرنا مائة مرة لقميصنا الجديد ولم نفكر يوماً أن الزهو به معصية
وأن كبرياء النفس الكاذبة يمكن أن تعطل كل المشروعات وكل المنجزات في العام والخاص أو تمحقها حتى وإن كانت رحلة إستراتيجية لسيدنا سليمان الملك النبي الكريم.. وإن من حسن الأقضية والنهايات أن نفتقد القميص الجديد فنحاسب بذات العقاب لكن للأسف على القميص البالي القديم.