> يجب أن نتناول ظاهرة ما جرى في الجنينة من أحداث مؤسفة وسقوط عدد من القتلى في احتجاجاتها أول أمس، وعلينا التركيز على الأسباب والدوافع والبواعث الحقيقية للتوترات القبلية ومغذياتها ومضاعفات ما ينتج عنها ويترتب عليها، ولماذا تتركز العقلية والثقافة القبلية خاصة في دارفور على الفعل ورد الفعل والعنف والعنف المضاد؟ وهل الكراهية وصلت إلى هذا الحد، ناسفة التعايش السلمي والتراضي الأهلي الذي ظل هو سمة دارفور في تاريخها الطويل لم تنجسه نتانة العنف القبلي؟
> هناك حقيقة يجب أن نعترف بها، فقد فشلنا كدولة ومجتمع في الاهتداء إلى المسلك الصحيح لدرء النزاعات وتخفيف الشعور القبلي السالب، وإدماج المجتمع في بعضه البعض وتذويب التعصب للعنصر والقبيلة، وتوجد عوامل عديدة أسهمت في ذلك، لكن الفشل الإداري والسياسي أهم هذه العوامل، ولم تفلح كل الأنظمة التي حكمت البلاد في الخروج من النفق المظلم الذي أدخل فيه المستعمر بلادنا، باعتماده على سياسة التفريق بين المكونات السكانية، وترسيخ مفاهيم قبلية جامحة مضرة في استخداماتها للأراضي والحواكير والديار، فأصبحت القبيلة في إطار الحكم والإدارة مطية سهلة وعنصراً لا بد منه في توازنات السياسة وأوزانها، فقام النسق القبلي وتوارث ثقافة مستحكمة تقود إلى الاعتقاد بأن القبيلة فوق الوطن والقيم والقانون والأمن والسلام والاستقرار.
> في كل أزماتنا ونزاعاتنا القبلية، نجد أن الشعور والعاطفة الجماعية والعقل الجمعي للقبيلة، هو المحرك لها، والموفر للمسوغات التي تدفع أي فرد منتمٍ لقبيلته أن يهب معها رشدت أو غوت، ويستطيع بكل سهولة أن يرتكب الحماقات ويقتل ويعتدي ويحرق ويدمر، دون أن يكون هو كفرد قد تضرر ضرراً مباشراً في الدافع الذي جره إلى ارتكاب ما ارتكب.
> في أحداث الجنينة أول أمس أكثر من عنصر مركب كان موجوداً في كيمياء هذه المحنة، منها ما ذكرناه آنفاً، ومنها الراجع إلى إخفاق حكومة الولاية في التعامل مع أزمة صارت ناراً لاهبة من مستصغر الشرر!!
> هناك عجز في قراءة الأوضاع بالولاية من ناحية أنها كانت متوقعة لدى الكثير من العالمين ببواطن أمورها وشؤونها، إرهاصاتها كانت موجودة فقط تنتظر من يقدح فيها الزناد، فكل الإجراءات والتدابير التي اتخذت في السابق في النزاعات القبلية لم تتجاوز مؤتمرات الصلح التي في الغالب لا تنفذ توصياتها وقراراتها، والأمر الثاني هو عدم وجود استراتيجية واضحة من الدولة في كيفية تجفيف منابع العنف بين القبائل واجتثاثه من جذوره، فالحكومة ظلت تمنهج الفصل القبلي وتدعم الإحساس بالقبيلة والعنصر في تقسيماتها الإدارية، فالولايات والمحليات تحدد وتصمم على أسس قبلية تراعي ترضية كل مجموعة سكانية مما أبعد القبائل عن بعضها البعض وفصل بينها إدارياً وسياسياً واجتماعياً، وأصبحت كثير من القبائل تباهي بما وقع لها في القسمة القاضية بتقسيم الولايات ثم المحليات ثم المحاصصات في المشاركة السياسية.
> كل الحكومات الولائية ونسبة لظروف ولايات دارفور تعاملت مع واقع معقد بعقلية بعيدة عن الحقيقة، لم تستوعب الانحدار الهائل للمجتمعات المحلية وهي تنظر إلى انتماءاتها الضيقة وكياناتها الخاصة، ولم تقدم هذه الحكومات حلولاً واقعية وعملية لمعالجة الاختلال الكبير للتداخلات الضارة بين ما هو قبلي مستهجن وما هو سياسي موبوء يقود لما لا تحمد عقباه.
> حكومة ولاية غرب دارفور لم تتحرك قرون استشعارها السياسية لتعرف ما يجري منذ فترة من عمل سياسي تحريضي وتفريقي بين المكونات القبلية، ولم تحسن التعامل مع الأزمة في بداياتها وكان يمكن احتواؤها، فمواجهة احتجاج المواطنين الذين قدموا من قراهم ودخلوا منزل الوالي وأمانة الحكومة بالحكمة المطلوبة والدهاء السياسي كان سيكون أقل تكلفة بكثير من الذي حدث، وهذا ربما يرجع إلى عدم تفهم ومعرفة طبيعة محركات القبائل وطريقة تهدئتها، ويضاف إلى هذا أن المعلومات عن المندسين والمحرضين والموجهين كانت متوفرة بحيث تتيح التحوط وتجنب الانزلاق إلى ما وقعت فيه الولاية، وقد لا يكون الوالي وحده مسؤولاً عن ذلك، لكن دوره كان حاسماً لو اتخذ قرارات غير التي اتخذ، وتصرف بالسرعة الكافية لاحتواء الأزمة والاحتجاجات سلمياً وبحكمة، دون أن تراق قطرة دم واحدة أو يشعل عود ثقاب!!