اتصلت بي للتنسيق في شأن مؤتمر اجتماعي تربوي، وبعدما انتهى الحوار قلت لها: أبلغي سلامي لزوجك العزيز، وأخبريه بأني مشتاق لرؤيته، قالت: ألم تسمع بالخبر؟ قلت لها: أي خبر! خيرا إن شاء الله، كيف صحته؟ وكيف والداه؟ هل حصل لهما شيء؟ قالت: لا، الحمد لله هم بخير، ولكن الخبر متعلق في حياتنا الأسرية، فسكتت برهة ثم قالت: لقد طلقني زوجي منذ أربعة أشهر ثم سكتت مرة أخرى، فوجئت بالخبر وجلست أتذكر شريط حياتهما لأكثر من خمسة عشر عاما، عندما كانا يدرسان في الخارج وتحملا الحلو والمر، وكانت علاقتهما طيبة، ويضرب بهما المثل في السعادة وحسن العلاقة الزوجية، وهما زوجان صالحان ومن عائلة كريمة، وتربطني بهما علاقة صداقة قديمة، فقلت لها: ولكنه لم يخبرني بالطلاق! قالت: هو اشترط علي وقتها ألا أخبرك لأنه يعرف أنك ستتدخل في حياتنا، وهو كما يقول قد حسم أمره، ولا يريد أن يكلمه أحد بهذا الموضوع، وأنا الآن في بيت أهلي ومعي أولادي.
أغلقت السماعة بعد هذه المحادثة، وجلست أفكر فيما أصاب الناس هذه الأيام، فلا يوجد أحد راض بحياته الاجتماعية، فالمتزوج يشتكي، والأعزب متذمر، والمقبل على الزواج خائف، والمنفصل غير مستقر، فهل ما نعيشه من سرعة اتخاذ قرار الانفصال بسبب الإيقاع السريع في الحياة؟ أم بسبب الانفتاح الذي حصل في عالم العلاقات، وسهولة التواصل بين الجنسين؟ أم بسبب تيسير وسائل المواصلات للتنقل والسفر، وصار الواحد يشبع حاجته بسهولة ويسر؟ أم بسب انتشار الزواج السياحي أو زواج أبو يوم وزواج أبو ساعة؟ أم بسبب ضعف التربية على الأصول والمحافظة على البيت والصبر على المشكلات؟ أم بسبب ضعف الإيمان في قلوب الناس؟ أم بسبب سهولة الوصول لبنات الهوى ورجال الهوى، من خلال التكنولوجيا ووسائل الاتصال؟ أسئلة كثيرة صارت تدور في رأسي بعدما أغلقت الهاتف.
كنا سابقا نقول إن الانفصال يحدث بين الزوجين عندما تنقلب حياتهما لجحيم، لا يستطيعان العيش معه، فيكون الطلاق هو الحل للحفاظ على سلامة أبنائهما وصحتهما، أما اليوم فصرنا نرى الطلاق يحصل لأسباب واهية، أو حتى بين الزوجين المتفاهمين، وهذه ظاهرة لا بد أن تدرس وتعالج، فصارت كثرة الطلاق تشجع المتزوجين حديثا على الانفصال، أو أنه يمنع المقبلين على الزواج من الارتباط حتى لا تكون نهاية حياتهما الانفصال، ومنذ يومين كلمتني فتاة لم يمض على زواجها سنة واحدة، تستشيرني في رغبتها بالطلاق، فقلت لها: وما هي مشكلتك مع زوجك؟ قالت: حتى الآن ليس لدي مشاكل مع زوجي، ولكني أتوقع أن حياتنا الزوجية لن تستمر، فاستغربت من كلامها ثم عرفت بعد ذلك أن لها صديقة انفصلت عن زوجها منذ سنة، وصديقة أخرى انفصلت منذ شهرين، فكان هذا سبب خوفها وشعورها بأنها ستطلق كذلك، وأعرف شبابا وفتيات عازفين عن الزواج لكثرة ما يسمعون من مشاكل زوجية وطلاق في أحاديث المجتمع ووسائل الإعلام، ومشاهدة المعارك الزوجية في “تويتر وإنستغرام”، وصار منهج “إذا ابتليتم فاستتروا” لا وجود له مع انتشار شبكات التواصل الاجتماعية، فأنا لست ضد الطلاق الناجح والتسريح بالإحسان، ولكن عندما يكثر الطلاق ويصبح ظاهرة، وكأنها جزء من الأخبار اليومية، فإن ذلك مؤشر خطير وعظيم يهدد كيان الأسرة، ويشرد الأولاد مهما كان المطلقان على وفاق واتفاق.
بل إن من عجائب ما سمعت ورأيت أن إنسان هذا الزمن مع كثرة برامج “التنمية البشرية وتنمية الذات وتطوير الذات والاهتمام بالذات”، تضخمت عنده الذات، حتى صار لا يرى لأحد حقا أو واجبا عليه، فلو حصلت له مشكلة زوجية قال: المهم نفسي وذاتي، وإذا تعرض لمشكلة تربوية قال: المهم نفسي وذاتي، وكأن لسان حاله يقول: “أنا ومن بعدي الطوفان”، صار لا يهتم بأحد، ولا يلتفت لأحد، ولو تعرض لمشكلة زوجية أو اجتماعية فإن أهم قرار يتخذه هو الاهتمام بذاته، وكأنه نسي خلق التضحية، ولم يعرف قيمة الصبر وفوائده، وغابت عنه القاعدة الربانية “إن مع العسر يسرا”، وأغمض عينيه عن سنة الحياة وهي “الزمن جزء من العلاج”، ويريد أن يعالج مشاكله الاجتماعية مثلما يعالج هاتفه النقال، لو توقف فإنه يغلقه ثم يعيد فتحه فيشتغل، وهكذا يريد أن يعالج مشاكله الزوجية.
إن هذا الوضع الاجتماعي الذي نعيشه كارثة كبيرة تساهم في هدم الأسر وتفككها، ولابد من تضافر الجهود الإعلامية والتربوية والاقتصادية والسياسية والدينية لمعالجة الظاهرة، أو على الأقل للتخفيف منها، حتى لا يأتي يوم نسمع بأخبار الطلاق مثل أخبار الوفيات، ولو أسسنا قناة خاصة لأخبار الطلاق لصدمنا بكثرة الأخبار وسرعتها.
إن أكثر ما نحتاج إليه اليوم جيل مثل جيل أمهاتنا، فكم من مشكلة زوجية أو عاصفة أسرية استطاعوا أن يديروها بدبلوماسية وذكاء، وعلى الرغم من أميتهم التعليمية فإنهم كانوا في حياتهم الاجتماعية يحملون شهادة الدكتوراه، واليوم نحن نحمل شهادة الدكتوراه، ولكننا في التعامل مع مشاكلنا الاجتماعية أميون..