شكراً رياض الإسلام!!

ظللت أقول لأبنائي دائماً إننا جيل محظوظ أكثر منهم رغم أن وسائل الراحة والرفاهية التي وفرت لهم الآن أكثر من التي تملكناها في الماضي، لكنها رفاهية جافة بلا طعم والسعادة فيها أحادية الجانب توطن وتغرس فهم الفردية والانغلاق على الذات، ونحن جيل مورست عليه مفاهيم التربية قبل التعليم، والنشاط الرياضي والثقافي في المدارس شكل فينا كل ملامح الشجاعة الأدبية ومعززات المعرفة والاتصال بالآخر، حتى الأجيال التي مارست الاقتصاد المنزلي كحصص يأخذ عليها درجات هي أجيال استمتعت باليوم الدراسي الذي لم يكن كله حفظا وواجبات.. بهذا الفهم تحمست أن أرافق ابنتي “وهج” نهار (الجمعة) إلى رحلة مدرسية أقامتها مدارس رياض الإسلام ببحري احتفاء بأعياد الاستقلال تحت شعار (كل أرجائه لنا وطن)، والرحلة حددت لها مدينة شندي عبر القطار واستحسنت الفكرة وانجذبت لها لأن لي محبة وخصوصية عشق للقطار الذي كنا نذهب به في الإجازات المدرسية إلى مدينة كريمة، وبعدها نقطع بـ(البنطون) إلى مدينة مروي، حيث الأهل والأحباب في دويم ود حاج، وهذه الرحلات لم تنمحِ من ذاكرتي طوال هذه السنوات وتشكل لديّ دائماً إحساساً بالحنين للسكة و”السناطور” و”السندة” والمحطات الكبيرة وناظر القطار، وصوت الصافرة، بل تشكل لديّ إحساساً حتى بالمدن التي كنا نمر بها وكأنني أنتمي إليها مولداً ونشأة.. وبالفعل التقينا في السكة الحديد بأساتذة وتلاميذ وأولياء أمور لنستقل القطار الجديد الذي هو في غاية الروعة والبراحة والنظافة، وبدأ التلاميذ والتلميذات في بذل أنشطتهم المسرحية والغنائية والإنشادية لتصبح العربات مسرحاً طويلاً، الروعة فيه لا تنتهي ولا تتوقف، وطوال الرحلة ظللت أتأمل الطريق والبراح الممدود ، وأقول لمن تجاورني في الرحلة والله نحن ظالمين روحنا وساجنِنها في سجن الخرطوم الكبير، لنحرمها من هذا الهواء النقي ، ونحد ونمنع أبناءنا من أن يتعرفوا على بلادهم كم هي شاسعة بالخير والسعة.
لكن دعوني أقول إن السكة الحديد هذه تعدّ واحدة من أكبر مقومات ودعائم الوحدة الوطنية، وصدقوني البلد دي ما كسبت خير من اللحظة التي همشت ودمرت فيها السكة الحديد، لأن هذه الوسيلة توفر القرب من الإنسان والمكان، بشكل عاطفي ووجداني كبير، وتشبه كثيراً خطابات زمان المكتوبة باليد تحمل العاطفة والحنية وتلامس الدواخل. ده إذا شبهنا طبعاً الوسائل الأخرى من طائرات وعربات زي رسائل الواتساب الجافة، الما عندها روح ولا إحساس!!
ووصلنا شندي حيث وجدنا المدينة في استقبالنا، ليبهرني الاستقبال وتبهرني شندي نفسها ، التي ما كنت أتخيلها بهذه النظافة وهذا التخطيط وهذا الجمال، وطبعاً زالت دهشتي ومعتمدها “الحويج” يأتي بنفسه للاستراحة التي نزل فيها التلاميذ لتقديم برنامجهم، والرجل قابلته، لأول مرة ،جعلي بكل ما تحمل الكلمة من معنى، متواضع للحد الذي جعله يرافق التلاميذ حتى محطة القطار عند العودة.. (نضام) ،لكن بفكر ووعي ودراية، لمست حب الحضور له والحميمية، التي تربطه بأهل شندي، لذلك بدت شندي هكذا كالعروس جمالاً ونضارة يزينها كوبري المتمة – شندي الرهيب ، وكورنيشها المهيب، فأبقوا عشرة على الرجل . فمستقبل شندي به ومعه!! لتبدأ رحلة العودة وما كنا نريد أن نعود في رحلة أحسب ، أنها تنم عن فكر ثاقب وجرأة في التنفيذ من قبل مدارس رياض الإسلام ، التي انتبهت، وهي ليست المرة الأولى، أن مسؤولية التعليم ليست جهداً أكاديمياً فقط، وهي في ذلك عشرة على عشرة، لكنها انتبهت أن البني آدم يتكون وجدانه وفكره من مراحل الطفولة الأولى، لذلك نظمت هذه الرحلة ووقفت عليها بجهد ومثابرة أشفقت فيها، والله ، عليهم وهم يقفون على كراع واحدة طوال الرحلة ذهاباً وإياباً ،لتلتقط بذلك هذه المؤسسة العملاقة الريادة والسبق في هذا الملف التربوي المهم، وتستحق التكريم لتحذو بقية المؤسسات التعليمية حذوها.. فشكراً الأستاذة المربية “سمية” وأنت تتحملين مسؤولية أطفال لم يرافقهم أولياء أمورهم طوال الرحلة، وكنت تتأكدين، ورغم كثرة عددهم، منهم بالاسم.. شكراً أستاذ “عماد عتباني” على المتابعة والاهتمام ودقة الملاحقة.. شكراً القائدة “إحسان” الملهمة للأفكار.. وشكراً القائد “منصور” الرجل الفنان.. شكراً كل الأساتذة والمعلمات.. وشكراً فضائية النيل الأزرق ، التي غطت الرحلة لبرنامج (مشاوير).. شكراً شندي ومعتمدها على الضيافة والكرم . وما غريبة عليكم وأنتم أهل الكرم والجود.. ورجاءً ثم رجاءً أعيدوا للبلد السكة الحديد لتعود للوطن عافيته!!
{ كلمة عزيزة
لاحظت أن محطة السكة الحديد ببحري ورغم كثرة المحال بها إلا أنها غير مستثمرة تجارياً، فاستثمار هذه المحال سيعود بالتأكيد بعائد مالي، يساهم في تشغيل القاطرات، وليس هناك مبرر أن تكون مغلقة، دون الاستفادة منها، اللهم إلا إن كان عندكم ، فهم فعلى الأقل ورونا ليه.
{ كلمة أعز
زارني أمس وفد من سكان منطقة (أم سيالة) شمال الوادي الأخضر، ليصل صوتهم عبر هذه الزاوية لوالي الخرطوم ، ومعتمد شرق النيل، وهم مهددون في إنسانيتهم، وصحتهم مع سبق الإصرار والترصد.
غداً أحكي تفاصيل المأساة.. فقط حضرات السادة، أعلاه، خلوا الخط فاتح.

Exit mobile version