* وكعادتنا في كل عام ما أن تشرق شمس الأول من يناير حتى يعيد الجميع ذكرى (نشيد الاستقلال) الذي كتبه د. عبد الواحد عبد الله عندما كان طالباً بجامعة الخرطوم عقب ثلاث سنوات فقط من رفع الزعيم الخالد إسماعيل الأزهري لعلم السودان، وقد لا يعلم الكثيرون من المفتونين بكلمات (اليوم نرفع راية استقلالنا) أن النشيد النابض وطنية كتبه الطالب الجامعي آنذاك في ليلتين بغية المشاركة به في مسابقة أدبية لاختيار الأعمال التي ستقدم في احتفال اتحاد طلاب جامعة الخرطوم في يناير 1960م، لتحصد قصيدة عبد الواحد الإعجاب ويقع الاختيار عليها ليتغنى بها كورال الاتحاد .
* وما أن صافحت آذان الحاضرين أصوات الكورال المتناغم في ليلة الاحتفال المحضورة حتى هاجت مشاعر الجميع في مقدمتهم الفنان خضر بشير الذي كان صديقاً حميماً لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم، ليتم تقديم النص بعد ذلك للفنان محمد وردي الذي صاغ له لحناً وطنياً يتدفق عزة وشموخاً بحجم تضحيات وبطولات من سطروا مولد شعبنا، فكانت صور ملاحم الفداء عبر: (كرري تُحدِث عن رجال كالأسود الضارية.. خاضوا اللهيب وشتتوا كتل الغزاة الباغية.. والنهر يطفح بالضحايا بالدماء القانية.. ما لان فرسان لنا بل فر جمع الطاغية) ..!!
* لا يذكر أحد منا أغنيات تُمجِّد أهم حدث وطني في تاريخنا سوى (اليوم نرفع راية استقلالنا) وأعمال أخرى معدودة مثل (يا غريب يلا لي بلدك)، ولا بد أن آلاف النصوص كُتبت ومئات الأغنيات أُنشدت منذ رفع الأزهري للعلم، ولكنها لم تملك خواص الرسوخ فتبخرت .!
* لا ننكر ـ كما قلنا ـ في مثل هذا اليوم كثيراً أن الذاكرة تحفظ عددا ليس بقليل من القصائد الوطنية التي تضخ الحماسة في الأوردة والشرايين، وتنفخ روح الانتماء الصادق في الأجساد، إلا أن رائعة الشاعر الأديب الراحل محمد عثمان عبد الرحيم (أنا سوداني) التي صاغ لها الألحان وتغنى بها (أبو الأغنية الوطنية) الراحل المقيم حسن خليفة العطبراوي أضحت (أيقونة الغناء الوطني الحقيقي)، وهنا يطل سؤال جديد عن سر احتفاظ هذا الأغنية بدهشتها في وقت انتهت فيه مدة صلاحية أغنيات وطنية كثيرة في ليلة ميلادها ..!
* يستسهل كثير من الشعراء أمر الكتابة للوطن، ويغني عدد ليس بقليل من الفنانين نصوصا مصنوعة، بينما يواصل محمد عثمان عبد الرحيم في ذات (أغنيته الأيقونة) رحلة نظمه البديع عبر حس أدبي رفيع يجعلك (تلف عمة الإعزاز) وترفع رأسك مباهياً العالم أجمع كونك تنتمي لشعب مبدع يعتز المجد للاقتران به.. مما دفع أحد أبنائه ليقف صادحاً بصوت عالي النبرة :
(أيها الناس نحن من نفر.. عمروا الأرض حيثما قطنوا.. يذكر المجد كل ما ذُكروا.. وهو يعتز حين يقترن) ..!
* إن كانت (أنا سوداني) تصل بمن يستمع لكلماتها بإصغاء تام إلى سدرة منتهى الجمال والوطنية والإبداع، فإن ما لا يعرفه الكثيرون أن لمحمد عثمان عبد الرحيم مئات القصائد الوطنية التي تضاهي (أنا سوداني) جمالاً وعمقاً وصدقاً، ولكن مثل هذه الدرر لشاعر (انا سوداني) ولغيره لا أظنها تجد حظاً من التغني في ظل هجر بعض الحناجر للغناء الوطني وسيطرة عقلية الغناء للأنظمة والحكومات على حساب الغناء الوطني وسط عدد كبير من الفنانين (عافاهم الله)!!
* كثير من الفنانين للأسف الشديد لا يفرقون ما بين مدح الأنظمة والحكومات؛ والغناء للوطن، لذا فقد انكمشت مساحات الغناء الوطني ومعظم الحناجر الشابة تردد الأعمال الوطنية المسموعة التي مرت عليها عشرات السنين في معظم الاحتفالات والمناسبات ..!
* المؤسف حقاً أن من يغنون للأنظمة لا يجدون حرجاً في الخروج لوسائل الإعلام لإلقاء اللوم على الحكومة لأنها لم تهتم بهم، مما يؤكد أن الغناء لم يكن من منطلق ذاتي تعبيراً عن قناعة بقدر ما أنه (تقديم خدمة تنتظر مقابلا عاجلا).!
* قبل حوالي أحد عشر عاماً سألت فنان أفريقيا الراحل محمد وردي عن تغنيه لمايو.. وكان وردي شجاعاً كعادته وهو يجيب قائلاً بالحرف الواحد :
(خدعتني شعارات مايو فغنيت لها، وعندما اكتشفت الحقيقة غنيت ضدها) .
* حديث وردي ضاعف من احترامي له وأكد أنه واضح في إفاداته.. صريح في آرائه.. يمتلك قدرة فائقة في النقد الذاتي، ويمارس النقد على نفسه قبل أن ينتقد الآخرين، وإفادات وردي تلك أكدت أنه يمتلك النضج الكافي والمقدرة على استيعاب مستجدات المشهد السياسي، كما أنه أيضاً يستطيع الفصل بين الأفكار والمعتقدات والأيدولوجيا الخاصة والانتماءات الحزبية وقضايا الوطن التي تتطلب مواقف شجاعة ومصيرية، و(لا عزاء لقيقم الذي انتهي غناؤه الوطني بإسدال الستار على سنوات (تمكين) حقبة سياسية)..!!
* ليس من العيب أن تغني لحكومة أو نظام شريطة أن تكون مقتنعاً بسياسات الحكومة التي تغنيت لها وألا تغير مواقفك وتبدل كلماتك متى ما طرأ جديد أو شعرت بأن الشخص الذي تغنيت له فقد كرسيه وينبغي الإسراع لمحو خطيئة الغناء له بمدح خلفه!!..
* السؤال الذي نطرحه في مثل هذه اليوم: (متى نسمع أعمالاً جديدة تقدم فقط لأجل الوطن؟.. ورد الله غربة الغناء الوطني) ..!
نفس أخير
* كل أجزائه لنا وطن.. إذ نباهي به ونفتتن.. نتغنى بحسنه أبداً.. دونه لا يروقنا حسن .