٭ صادف يوم الجمعة الأول من يناير 2016 الذكرى (60) لنيل السودان استقلاله من الحكم الثنائي الانجليزي المصري في 1956/1/1م الذي أعلن من داخل البرلمان في 19 ديسمبر من العام 1955م، وتحقق ذلك بعد نضال كبير لرجال سطروا التاريخ بأسماء من نور تظل أسماؤهم باقية في وجدان الشعب السوداني جيلاً بعد جيل.. كيف لا وبسببهم نتنفس الآن الحرية، وأصبح السودان دولة كاملة السيادة .. كثيرون هم الرجال الذين صنعوا الاستقلال ومن هؤلاء الزعيم إسماعيل الأزهري الذي أنزل العلمين المصري والانجليزي ورفع علم السودان بمشاركة محمد أحمد المحجوب رئيس كتلة المعارضة في البرلمان، إيذانا ببداية عهد جديد.
٭ ميلاده ونشأته
لم تكن أسرة الأزهري تعلم في ذلك اليوم من العام 1901م أن مولودها الجديد سيكون واحداً من عظماء وزعماء السودان، ولم يدر بخلد أحد لحظتها أن كتاب التاريخ قد فتح صفحة جديدة مع إطلاق صرخته الأولى بمدينة الأبيض التي نزح إليها والده من قرية منصوركتي بمنطقة الدبة الولاية الشمالية.
تقول سيرته الذاتية إن إسماعيل بن سيد أحمد بن إسماعيل بن أحمد الأزهري بن الشيخ إسماعيل الولي، إنه نشأ وترعرع في بيت علم ودين، تعهده جده لأبيه إسماعيل الأزهري الكبير بن أحمد الأزهري، تلقى تعليمه الأوسط بود مدني، ثم التحق بكلية غردون عام 1917 م.. ولم يكمل تعليمه بها، عمل مدرساًَ في مدرسة عطبرة الوسطى وبعدها في مدرسة أم درمان، قبل أن يبتعث للدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت، والتي عاد منها في العام 1930 م، حيث عين بكلية غردون التي أسس بها جمعية الآداب والمناظرة، الأزهري متزوج من مريم مصطفى سلامة والتي توفيت في مارس 2015م، وأب للمرحوم محمد الأزهري الذي توفي إثر حادث حركة في العام 2006م، وأربع بنات، التوأم سامية،سمية وسناء، وجلاء التي ترأس الآن الحزب الاتحادي الموحد المعارض.
٭ البداية مع التاريخ
عند قيام إضراب كلية غردون الشهير في العام 1932م، ساند الأزهري الإضراب مع عدد من الأساتذة السودانيين، وبعدها ظهر نشاطه السياسي بوضوح في الاجتماع التاريخي لمؤتمر الخريجين في 12 فبراير 1938، والذي ترأسه فيما بعد وترأس حزب الأشقاء الذي تكون من توحيد الأحزاب الإتحادية، وكان الحزب ينادي بالوحدة مع مصر.
تولى إسماعيل الأزهري رئاسة الحزب الوطني الاتحادي (الحزب الإتحادي الديمقراطي حالياً)، وفي 6 يناير من العام 1954 م انتخب رئيساً للوزراء من داخل البرلمان، بعد فوزه في انتخابات 1953م.. وكون أول حكومة وطنية من الحزب الوطني الاتحادي أعلنت الاستقلال من داخل البرلمان في ديسمبر 1955
ويظل الأول من يناير 1956م يوماً مشهوداً للسودانيين، وفي صبيحة ذلك اليوم كان السودان ورئيس وزرائه الأزهري محط أنظار العالم والتاريخ يوثق للبلاد وللرجل، وهو يقوم بتنكيس علم المستعمر، ويرفع علم السودان بألوانه الأصفر، الأزرق والأخضر ليرفرف من على سارية القصر الجمهوري ليصبح السودان دولة مستقلة.
٭ المناضل
القيادي بحزب الأشقاء في ذلك الوقت توفيق اسحق وصف الأزهري بالمناضل الجسور والشجاع، ويقول اسحق إن الأزهري كانت له مكانة مميزة وسط أقرانه والأساتذة بكلية غردون، ويمتاز بطول البال والعمق في التفكير، وقاوم الاستعمار وكان قائداً لحركة التحرر الوطني، ورفض كل فكرة المستعمر التي تدعو لتكوين مجلس استشاري وجمعية تشريعية بعد خروجهم من البلاد، والتي قاومها بشدة إلى أن وافقوا على إعلان الاستقلال من داخل البرلمان، وحول مواقفه الانسانية يرى اسحق أن الازهري شيد معهد القرش بحي الملازمين بأم درمان للطلاب الفقراء.
٭ علاقته بالصوفية
يقول صلاح الأزهري شقيقه الأصغر أن الأزهري شخصية صاحبة تركيبة غريبة، جامعة للشخصية السياسية والإجتماعية والدينية، وهو رجل صبور وعفيف ومتسامح مع الآخرين، وأضاف أنه من أسرة صوفية تنحدر من الشيخ إسماعيل الولي، وكان على تواصل مع شيوخ الطرق الصوفية وخاصة الشيخ الجعلي شيخ كدباس الذي كان يستقبل الأزهري خارج حدود مسيده بعطبرة، وكذلك كانت له علاقات مع الشيخ قريب الله شيخ الطريقة السمانية الذي عين الأزهري محاسباً في مسجد الطريقة بأم درمان، كما له علاقات مع الشيخ أوزرق طيبة، ومضي صلاح بالقول إن الأزهري كان مختلفاً عن أقرانه، وكان يجالس العلماء وعمره لم يتجاوز الست سنوات، وكان يقيم ليله في التعبد وتلاوة القرآن الكريم، ويحتفظ بوضوئه من صلاة الفجر حتى صلاة العشاء، مما يؤكد تحمله وصبره الطويل.
٭ خدمة ضيوفه
وعن شخصيته الإجتماعية يقول صلاح إن إسماعيل كان يواصل كل الناس في أفراحهم وأتراحهم، وليس الأهل وحدهم، وأكثر ما يميزه أنه يحفظ أسماء كل من يلتقيهم، ودائما ما يستخدم كلمة سيد في مخاطبته للآخرين، وكان يقول للعامل الذي يخدمه بالمنزل سيد عثمان، وكان يقود عربته بنفسه في المناسبات الخاصة ولا يستخدم عربة القصر إلا في العمل، وكان يخدم ضيوفه بنفسه في حال غياب أسرته عن المنزل، مقدماً لهم الماء والتمر، وأشار أنه كان يفتح باب منزله بنفسه لكل طارق ليلاً، وهو رجل بسيط في حياته وتعامله، يرتدي الدمور ويجالس من يجلسون على الأرض ويشاركهم الطعام والشرب دون تعفف، ورغم أنه لين المعشر لكنه كان شديداً وقوياً في قراراته.
٭ مواقف
يواصل شقيق الأزهري حديثه قائلاً: إن الأزهري كان متسامحاً جداً، وما يؤكد ذلك قصته مع مجموعة إعترضت طريقه وهو رئيس للبلاد في طريقه إلي الإقليم الشمالي آنذاك ، وقامت بذبح الكلاب والهتاف ضده، وألقت الشرطة القبض عليهم، وعند وصوله مدينة عطبرة طلب من مدير الشرطة إطلاق سراحهم بعد العفو عنهم، وزاد علي ذلك بدعوته لهم لتناول الطعام معه.
ويروي صلاح موقف آخر للأزهري عندما أراد دخول مستشفى الخرطوم لزيارة مريض، وكان برفقته فاروق المفتي، فمنعه حارس البوابة ورفض إدخاله بعد موعد الزيارة، ورجع الازهري، وعندما علم مدير المستشفى د. وصفي دياب قررمعاقبة العامل إلا أن الأزهري طالب بتحفيزه لأنه رأي أن العامل قام بواجبه، وموقف ثالث يحكية صلاح عن تسامح الأزهري، وذكر أنه أبان الديمقراطية الثالثة حضر إليه مجموعة من الضباط، وقالوا له ان الموقف بالبلاد متأزم وسنقوم بعمل انقلاب ونسلمك السلطة، إلا أن الأزهري رفض الخطوة بشدة، وقال لهم لولا معرفتي بوطنيتكم لقدمتكم للقضاء.
٭ أسرار جديدة
وكشف صلاح الأزهري عن سر قال إنه كان واحداً من أسباب انقلاب مايو، وذكر أن مجموعة من النواب الإتحاديين اقترحوا على الأزهري تعيين خمسة من أعضاء الحزب في مناصب وزارية، وقال إن الأزهري كان رافضاً للخطوة، إلا أنه وافق عليها بعد إصرارهم، وحدث بعد ذلك بفترة وجيزة الانقلاب، واكتشف بعدها من كانوا في حزبه من قيادات مايو ومن الذين دبروا للانقلاب.
٭ الاعتقال
تعرض الازهري للاعتقال مرات عديدة بدأت في عهد الاستعمار وتواصلت بعد الاستقلال، وبعد انقلابي عبود في نوفمبر ونميري في مايو.
الأزهري تقول عنه أرملته الراحلة مريم سلامة في لقاء إعلامي قبل وفاتها :
كان زواجنا سنة 1942 بأم درمان، لم يكن زواجا باحتفالات كثيرة كما هو متعارف عليه فى ذلك الوقت، ولم (يتحنن) الأزهري نسبة لوفاة والدته رحمها الله، وبعد مراسم الزواج انتقلت لمنزل زوجي بالمسالمة .
٭ أيامه الأخيرة
كان الأزهرى فى السجن وطلب إذناً لتشييع جنازة شقيقه علي الأزهري وظل طوال اليوم يتقبل العزاء فأصابه إرهاق شديد من مراسم العزاء الطويلة، كان على مشارف السبعين من عمره وأصيب بجلطة دموية نقل على إثرها إلى المستشفى الجنوبي، وظل بها تحت عناية مركزة، بعد أن رفض المسئولون السماح بسفره لتلقي العلاج فى الخارج (بحسب أرملته) التي قالت: كان الحرس يقف خارج الغرفة في الصباح، وكان الأزهري يتلقى التحية من المعتقلين السياسيين الموجودين بالمستشفى، وفي يوم وفاته حضر للزيارة ابننا الوحيد محمد كعادته، وكان عمره آنذاك 12 عاماً، إلا أن الحارس أوقفه ومنعه من الدخول، وما كان من محمد إلا أن صرخ في وجه الحرس، عندها أدار الأزهري رأسه ونظر حيث يقف وحيده، ورفع له يده مطمئناً ومحيياً طالباً منه الإمتثال لأوامر الحرس، كان احساساً غريباً، انتابتنى مشاعر متباينة لم أصدق أن والده على فراش المرض، ووحيده على بعد خطوات منه لكنه لا يستطيع احتضانه، لأن هناك حارساً ببندقية عند الباب.
٭ وفاة الزعيم
تواصل أرملة الأزهري حديثها: شاءت الأقدار أن يكون ذلك المشهد هو اللقاء الأخير بين الأزهري ووحيده، بعدها دخل فى غيبوبة، وبعد لحظات فارق الحياة عند الساعة الرابعة من عصر الثلاثاء الموافق 26 أغسطس 1969م ووري جثمانه الثرى في يوم الأربعاء 27 أغسطس من ذلك العام بمقابر البكري بأم درمان.
رسمته: ثناء عابدين: اخر لحظة