خروج نهائي
…جمعنا مقهى المطار …حاولت كل منا ان تصل الى الطاولة الصغيرة قبل الاخرى ..ومن ثم نظرت الي واشارت الى الكرسي المقابل ..لما لا ..لنتقاسم الطاولة والحديث ..هي سورية ..كانت تعيش في المملكة الى وقت قريب ..ثم اختارت بعد تفكير ان تهاجر الى كندا …قالت انها اتفقت على ذلك مع زوجها وابنها اللذان ذهبا الى الصلاة في مسجد المطار في ذلك الوقت … ترتيبات الهجرة اخذت وقتا طويلا ولكنهم اكملوها الان ..وهاهم قد تحصلوا على تأشيرة كندا ..و(خلاص عملنا خروج نهائي من المملكة )..قالتها مصحوبة بتنهيدة ….ضحكت وقلت لها (نحن ذاتنا ..انا وأولادي عملنا خروج نهائي )…قالت لي (لي وين رايحين ؟؟امريكا .؟ ..لا خليني أحرز … أكيد بريطانيا …كل السودانيين يحبون يروحون على لندن)…هززت رأسي قائلة (لا والله راجعين السودان )…فغرت فاهها ..وقالت (معق…؟؟) ..لم تستطع اكمال الكلمة ..وابتلعت ريقها ..لتقول (لا ..ما تأخذيني اختي ..بس مافي حدا عاقل يروح ع السودان ها الايام …صحيح البلد ما فيها حرب …مستقرة ..بس يقولوا غالية ..نار ..والمعيشة فيها صعبة …..ليش ما فكرتوا مية مرة قبل هيك قرار)..كنت أستمع اليها وعقلي يعمل في سرعة … تذكرت مناقشات اصدقاءنا في السعودية ..حول العودة ..ومحاولة اثناء زوجي عن قراره … حتى وصل به الامر الى (النقنقة ) …فقد سمعته وهو يهمهم بعد حديث مطول في الهاتف مع صديقه …اغلق الجوال وهو يقول ( التقول انا ماشي اسرائيل …انا ماشي بلدي..ياخ ) …قلت لها ..انت تتحدثين عن السودان ضمن الخيارات التي طرحت امامك للهجرة …ولكني اراه بلدي ..هو اول خياراتي عند العودة …واعتقد انه لو كانت الامور مستقرة في وطنك ..لعدت اليه مباشرة ..أليس كذلك؟؟…هزت رأسها بالنفي …قالت ان خيار الهجرة كان لاجل مستقبل دراسي وتعليمي افضل لابنهما ..وللبحث عن بلاد تقدر الانسانية وتحترمها ..كذلك هي تريد تأمين صحي وخدمات أفضل في اخريات العمر لها ولزوجها ..ما الذي يجبرها على تحمل قطوعات الكهرباء وانعدام غاز التدفئة !!!..هي لا تعيش مرتين في هذه الحياة …منطق لم استطع الرد عليه …ولو حسبتها هكذا ..لوجدت اني اسير بكامل قواي العقلية الى بلاد تنشر برمجة قطوعات الكهرباء في الصحف الرسمية …تأتيك مياهها حين تأتيك عكرة ممزوجة بلون الطين …تلهبك اتربتها في الصيف فلتفح وجهك الذي تعرق حتى اكمل ماء جسمك …هل تساءلنا يوما ما ..ما الذي يشدنا الى هذا الوطن ؟؟؟..هل من تفسير لذلك الحنين الذي يدفع الدمع الى عينيك بمجرد ان تسمع عنه خبرا ما ..؟؟ ..هل توقف احدنا يوما ما في ظاهرة مثل تكتل السودانيين مع بعضهم ..وبحثك عن أي ملامح مألوفة في اي تجمع بشري ؟؟؟….ليس عندي تفسير ..كما ليس عندي منطق ارد به على تلك المرأة التي حسبتها عقليا …خياراتنا في الحياة لا نستطيع ان نفرضها على الاخرين ..كما لانستطيع ان نضع انفسنا في موضعهم ….قالت لي وهي تضحك (خلي بالك انت ماشية للمجهول )…قلت لها ..كلانا يذهب الى المجهول …على الاقل انا مجهولي (معروف)…افترقنا بعد ان تمنيت لها التوفيق ….أعطتني ظهرها واسرعت ناحية البوابات الغربية …بينما كنت اجمع اشيائي …كان مكبر الصوت يعلن (عن قيام رحلتها رقم ..المتجهة الى الخرطوم ..على السادة المسافرين ..التوجه الى البوابة رقم ..)
د. ناهد قرناص