قلنا في مقال الأمس إن عرمان كالعهد به راوغ وفد الحكومة خلال جلسة التفاوض الأخيرة ليصل إلى مبتغاه المتمثل في مناقشة القضايا القومية التي ينبغي أن تناقش في إطار الحوار الوطني الشامل مزحزحاً بذلك وفد الحكومة من ملف منطقتي النيل الازرق وجنوب كردفان الذي ما كان ينبغي أن يُناقش شيء سواه، وقلنا إن ذلك ما أدى إلى انتفاضة وانشقاق العميد محمد يونس من الحركة الشعبية في النيل الأزرق انتصاراً لأهله الذين ظلت الحركة الشعبية وعرمانها وباقانها وعقارها تتاجر بدمائهم منذ أيام الهالك قرنق في قضية لا شأن لهم بها كما انتفض من قبل القائد تلفون كوكو في جنوب كردفان رفضاً لصعود أولئك الأشرار على جماجم أبناء النوبة الذين استغلوا واستخدموا في حرب لا علاقة لهم بها.
فقد قال القائد محمد يونس متحدثاً عن الحركة الشعبية قطاع الشمال التي انشق عنها إن قادتها (لديهم أجندة خاصة لا تخدم أهلنا في النيل الأزرق والسودان عامة) ثم قال كذلك (إن الطريقة التي تتعامل بها قيادة الحركة مع ملف المنطقتين يشوبها الكثير من الغموض والرؤية غير واضحة للمقاتلين في الميدان) لكن رئيس وفد التفاوض الحكومي المهندس إبراهيم محمود بدلاً من أن يحاصر عرمان في بند المنطقتين تركه (يبرطع) هارباً من تلك القضايا إلى أجندته الخاصة التي لا ينبغي أن تناقش إلا في إطار الحوار الوطني باعتبارها قضايا قومية لا ينبغي أن يتمتع عرمان بأي خصوصية تمنحه تفويضاً بشأنها.
يعلم عرمان كما تعلم قيادات الحركة الشعبية وحلفاؤها السابقون في الجبهة الثورية من حركات دارفور أنهم جميعاً يعانون من سكرات الموت بعد الضربات الموجعة التي تلقوها في ميادين القتال ولذلك أعجب أن تتيح الحكومة للحركة الشعبية وهي في تلك الحال البائسة أن تناقش قضايا لا ينبغي أن تطمع في الاقتراب منها حتى في أيام قوتها.
كان ينبغي أن يتفق على الأجندة بحيث يفرق بين ملف المنطقتين الذي يقتصر التفاوض حوله حصرياً على الحركة الشعبية وملف الأزمة الوطنية التي محلها الحوار الوطني الشامل والذي يفترض أن يلتئم في الداخل بعد اللقاء التحضيري الذي يفترض أن ينعقد في أديس أبابا بين آلية السبعتين للحكومة والمعارضة كطرف وبين الجبهة الثورية والصادق المهدي كطرف ثانٍ، وبما أن الجبهة الثورية قد انشقت بعد فضيحة الصراع على الرئاسة بين كل من حركات دارفور والحركة الشعبية فإن اللقاء التحضيري يفترض أن ينعقد بين آلية السبعتين وطرفي الجبهة الثورية.
أما الجولة الأخيرة للتفاوض مع الرويبضة فقد اختلط حابلها بنابلها وتمكن عرمان من تحقيق حلم ظل يركض خلفه من قديم لم يمكنهم إبراهيم غندور من طرحه فقد نجح في خلط ملف المنطقتين بملف القضايا القومية التي لا شأن لهم بها إلا مع القوى الوطنية الأخرى المعنية بالقضايا القومية.
لكي أدلل على قولي أرجو أن أعرض عليكم ما استهل به عرمان بيانه الأخير الذي لم يبدأ بالبسملة او بالاستعاذة من الشيطان الرجيم وهل يستعيذ الشيطان من نفسه؟!
هل تذكرون ما حدث عندما عاد عرمان في معية الشيطان الأكبر قرنق عقب توقيع نيفاشا عند مناقشة الدستور الانتقالي؟ هل تذكرون رفض عرمان إيراد البسملة في صدر الدستور الانتقالي ؟! هذا هو عرمان الخارج على قيم هذه البلاد وعلى هوية شعبها منذ شبابه الباكر ورغم ذلك يبحث الرجل عن دور له في مستقبل السودان!!!
إنه ذات عرمان الشيوعي الماركسي الذي هرب من السودان عقب مصرع الشهيدين بلل والأقرع اللذين قتلا غدرا في جامعة القاهرة فرع الخرطوم خلال ركن نقاش بين الإسلاميين والشيوعيين في منتصف ثمانينيات القرن الماضي حيث التحق عرمان بعدها بقرنق ليواصل مسيرة الدماء التي ولغ فيها طوال حياته.
بدأ عرمان بيانه الأخير بالقول إن وفد الحركة طرح ثلاثة أسئلة تتلخص فيما إذا كان الحوار المنعقد بالخرطوم بأطرافه الحالية سينهي الحرب وما إذا كان ذلك الحوار بحضوره الحالي المفتقد لقوى سياسية مؤثرة يحقق الإجماع والتوافق الوطني وما إذا كان غياب الاتحاد الافريقي والمجتمع الدولي سيؤثر في استمرار عزلة السودان؟!
أسئلة مشروعة ولكن هل تناقش في ذلك الاجتماع أم إن مكانها اللقاء التحضيري حول الحوار الوطني؟!
ذلك ما جعلني أقول إن وفد الحكومة تنكب الطريق وارتكب أخطاء فادحة هي التي مكنت عرمان من محاصرته بدلاً من أن يحدث العكس.