رفعت الصحافة سقوفات أحلام قطاع عريض من المواطنين يحلمون بوقف الحرب ووصول الفرقاء السودانيين لاتفاق ينهي المعاناة التي يعيشها الشعب جراء الحرب، وخاصة من أهالي المنطقتين اللتين يخيم عليهما البؤس والإحباط.. وروجت الصحافة السودانية عبر خطوط حمراء فاقع لونها تجذب القراء، لاتفاق وشيك بين الحكومة ومتمردي قطاع الشمال، وفسر السماح بظهور صورة وصوت “ياسر عرمان” في التلفزيون الأمدرماني بأنه دليل على تقدم المفاوضات وبلوغها مرحلة سمحت لمعارض يحظى بمقت وكراهية قطاع من السودانيين خاصة المشتغلين بالشأن السياسي، فهل حقاً تقاربت المسافات من خلال المفاوضات غير الرسمية التي جرت في “أديس أبابا” مؤخراً؟.. وما هي دواعي عقد جلسة غير رسمية من حيث المبدأ؟
نبدأ بالإجابة على السؤال الأخير، حيث طرحت الآلية الأفريقية رفيعة المستوى على رئيسي وفدي التفاوض في آخر جولة انتهت للفشل عقد لقاءات تشاورية بين الأطراف قبل الجولة القادمة، ووافق كل من “ياسر عرمان” و”إبراهيم محمود” على المقترح الذي قدمه “أمبيكي” في دعوة الغداء الخاصة التي أقامها الوفدان في الجولة الأخيرة.. وترددت معلومات خاصة عن نصائح أسداها د.”منصور خالد” للوسيط “أمبيكي” بالاستفادة من إرث المفاوضات التي جرت بنيفاشا، حيث جلس “علي عثمان محمد طه” ود.”جون قرنق” لوحدهما جلسات طويلة وتم إنشاء مجموعة عمل صغيرة من الطرفين رسمت طريقة الاتفاق النهائي.. وكان “ياسر عرمان” قد طلب من البروفيسور “إبراهيم غندور” الرئيس السابق لوفد الحكومة المفاوض، صيغة مفاوضات غير رسمية في بلد ما يجتمع ممثلون للحكومة من الشخصيات التي لها خبرة في التفاوض ووعياً بالسلام ومطلوباته، مع شخصيات من الحركة الشعبية من الذين لهم وعيه أيضاً ومطلوباته والاتفاق على مسودة نهائية يوقع عليها الطرفان أمام الوساطة الأفريقية.. ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث.. أما ماذا حدث في المفاوضات غير الرسمية الأخيرة؟؟ فإن الوسيط “أمبيبكي” قد طرح على الطرفين بعيداً عن أضواء الإعلام وضغوط حلفاء الحركة بصفة خاصة، ومشجعيها من المعارضين الذين يهرعون لـ”أديس أبابا” في كل جولة تفاوض ويحرضونها على القتال دون أن يقاتلوا معها… والقضايا التي تم الحوار حولها هي وقف الحرب من خلال التفاوض وإنهاء معاناة المواطنين وحق الحركة في المشاركة في الحوار القومي، ومثل هذه القضايا غير مختلف عليها في الأساس، وقد اتجه الوسيط “أمبيكي” لأول مرة للطريق الذي ربما أفضى لاتفاق في السنوات القادمة، فما هو الطريق الذي تنكبته الجولات السابقة؟؟
إن كل جولات المفاوضات السابقة وضعت الانشغالات الأمنية والعسكرية باعتبارها الأولويات ، التي إذا لم تحسم ويتفق عليها، ممنوع الحوار حول الاتفاق السياسي.. وتلك ثغرة كبيرة وخلل جوهري في مسار العملية التفاوضية ،وتشريح خاطئ لأصل القضية التي هي في الأساس قضية سياسية.. إذا لم يتفق الطرفان سياسياً لن يتفقا على ترتيبات عسكرية لمائة عام قادمة!
ونعني بالاتفاق السياسي تأسيس وإنشاء وخلق إرادة سياسية مشتركة لتحقيق السلام، ومن خلال تلك الإرادة المشتركة ، بتأكيد قيادة الحكومة والحركة الشعبية ، على المضي قدماً في إجراءات وقف إطلاق النار والفصل بين القوات والاستيعاب بالدمج والتسريح ،وفق إجراءات لن (تختلق) من العدم.. وليست هناك فرصة للسودانيين لتعديل مواثيق وأعراف متبعة ،لمعالجة مثل هذه القضايا، وللحكومة والحركة الشعبية خبرة وإرث في اتفاقيات الترتيبات الأمنية والعسكرية، ولكن متى يقتنع الطرفان بأن الاتفاق السياسي هو محطة الانطلاقة للاتفاق على بقية الملفات؟.. وبوادر الأمل التي تسربت في “أديس أبابا” من بين ركام الفشل والإحباط هي دليل على أن القضايا السياسية، يمكن الاتفاق عليها ،ولن يستعصي على الطرفين الوصول لصيغة شراكة ومشاركة سياسية.
والمراقب لمخرجات تصريحات رئيس وفد الحركة الشعبية “ياسر عرمان” منذ الجولة الماضية، يجد أنها اختلفت عن سابقتها، وبدا “عرمان” أكثر موضوعية ،وبعداً عن إثارة مكدرات الطرف الحكومي، أما لماذا فتلك قصة أخرى.