السودان بعد ستين عاماً من الاستقلال إلى أين المصير؟..

بعد إيام قلا ئل تمر علينا الذكرى الستون للاستقلال المجيد الذي بذل فيه الأبطال من الرجال الدم والروح لإزالة كابوس المستعمر البغيض لينعم الشعب السوداني بالحرية ويتمع بخيرات بلاده المنهوبة لتقوية جذور المستعمر وبقائه لأطول فترة، لكن كانت إرادة الشعب أقوى ما يتصور المستعمرون، هذه الإرادة القوية انتهت مع نهاية المستعمرالذي اتحد الشعب لطرده وإخراجه، لكن القيادة السياسية لم ترسم معالم الطريق الوطني في كيفية حكم السودان، فظل طيلة هذه الفترة ما بين الحكم العسكري والمدني في فترات قصيرة، ولم يحدد الدستورالذي يحكم مسار الوطن، فظلت الدساتير المؤقتة من حين لآخر هي سيدة الموقف، ولم تحسم القضايا الوطنية الكبرى كمشكلة جنوب السودان، التي خرجت من رحمها من بعد ذلك قضية جبال النوبة، والنيل الأزرق، والشرق، ودارفور، وأخيراً حلايب وشلاتين، ظلت هذه القضايا وعلى رأسها القضية الأم«جنوب السودان» مسار الجدل السياسي وانصرف جهد القيادة السياسية على مر التاريخ من التنمية والإصلاح الاقتصادي، فظللنا طيلة فترة ما بعد الاستعمار في تضميد الجراح وليتها ضمدت لينتقل الشعب الى مربع الرفاهية والتنمية الشاملة، والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة، إلى متى نظل على هذا الحال؟ومتى تجتمع كلمة أبناء الوطن الواحد لبناء سودان الوحدة الوطنية؟ هذه الأسئلة مطروحة الآن على طاولة مؤتمر الحوار الوطني الذي يناقش قضايا الوطن المختلفة لبلورة رؤية جماعية للخروج من الأزمات المتلاحقة بعد ستين عاماً من الاستقلال، عندما انفصل الجنوب ظننا أنه بعد استئصال العضو المسرطن، أن بقية الجسد الوطني سيشفى ويعفى، لكن اتضح أن المرض سرى في بقية الجسد خلال فترة النقاهة التي امتدت لخمس سنوات «الفترة الانتقالية»، فإلي أين المصير بعد هذا العمر المديد من الاستقلال؟ إذا كنا نرث المشكلة تلو الأخري والمشاكل الموروثة كلها مركبة تنتج عنها مشكلات فرعية أخرى متعلقة بالاقتصاد والتنمية الاجتماعية وقضايا الأمن والسياسة، والهوية وهلم جرا، نحن في كثير من الأحيان في طرح قضايانا نعلق أسبابها للتدخلات الخارجية والموروثات الاستعمارية باعتبار ان المستعمر ترك خلفه قنابل موقوتة هنا وهناك لتنفجر في أوقات محددة، لكن في تقديري هذه حيلة العاجزين، هب أن المستعمر فعل هذا وخرج، فلماذا لا تعمل القيادة السياسية طيلة هذه الفترة على إبطال مفعول هذه القنابل الموقوتة قبل أن تنفجر؟ وما كان هذا الصنيع صعباً ولا مستحيلاً، لأنه عبارة عن توزيع الميراث الوطني بالعدالة على جميع أبناء الوطن للذكر مثل حظ الأنثيين في السلطة والثروة والتنمية، كما فعل الدكتورمحمد مهاتير رئيس الوزراء الماليزي الأسبق مع الشعب الماليزي متعدد الأعراق والديانات الذي كادت تطيح به القنابل الاستعمارية الموقوتة لولا أن تداركتها الحكمة المهاتيرية بالعدالة الاجتماعية والتعليم والتنمية، هكذا تعالج قضايا الوطن بالحكمة وبالتي هي أحسن، وليس بالعنترية وقوة الرأس، خرج الاستعمار من السودان وهناك حزبان سياسيان كبيران: هما، حزب الأمة«الأنصار» والاتحادي الديمقراطي «الختمية» وبجانبهما حزبان صغيران تحت النمو والتطور، هما الإخوان المسلمون، والشيوعيون، لكن جميع هذه الأحزاب وبالذات الحزبان الكبيران اللذان تباريا على السلطلة ما بعد خروج المستعمر لم تكن لهما رؤية واضحة في حكم السودان، ولا فلسفة محددة في القضايا الوطنية المختلفة، كان الحكم يسير بالبركة والعيش في الخيال البعيد مع مجد الآباء والأجداد، وظل الشعب المسكين تحت تأثير دغدغة العواطف التاريخية بالمجد والبطولات دون أن يدرك الخطر المحدق به وبمستقبله، إلى أن وصلنا إلى هذه المرحلة الملبدة بغيوم المشاكل تحت حكم الحزب الصغير الذي كان بعيد الاستعمار في المهد صبياً لما يشب عن طوقه بعد، فنما وترعرع حتى حل محل الحزبين الكبيرين وورث تركة مثقلة بالقضايا الوطنية الساخنة وظل جاهداً منذ مطلع شمس مولده في يونيو 1989 ينظر إلى القضايا الوطنية المعقدة برؤية الجماعة في الظاهر وبفلسفة الأيدولوجية الإسلامية الخاصة تحت الظل، وهذا حق مشروع لكل مجتهد في الفقه السياسي، فكانت أولى القضايا التي طرحت للنقاش الجمعي هي قضية السلام، فكان مؤتمر الحوار الوطني حول قضايا السلام الذي حدد مسارات السلام وتوالت المؤتمرات في كل القضايا الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، وكان الشعار في تلك الفترة والنغمة السائدة التحرر الكامل من الاستعمار باعتبار أن المستعمر خرج لكن ما زالت آثاره باقية في كل مفاصل الدولة، في الاقتصاد، والقانون، والتعليم، وغيرها، كانت هذه المؤتمرات والحوارات هي الجسر الذي عبرت به الإنقاذ الأمواج السياسية العاتية في تلك الفترة وتمكنت من حكم الدولة بكوادرها وبقية من أجنحة الأحزاب القديمة والحديثة تدخل من تشاء وتخرج من تشاء حسبما يقتضيه الظرف السياسي، آخر تقليعات الإنقاذ في القضايا الوطنية هو مؤتمر الحوار الوطني الذي يجري منذ ما يقارب الشهرين بمشاركة أكثر من ثمانين حزباً، قد ينتهي هذا الحوار بمخرجات تعالج القضايا الوطنية التي بلغت من العمر ستين سنة إلا قليلاً، فهل تستطيع هذه الجموع الحزبية أن تضع السودان في مكانه الطبيعي كدولة قائدة ورائدة، أم أنها مجرد جلسات تتخللها قهقهات تنتهي بنهاية الفترة المحددة للمؤتمر ونظل نندب حظنا العاثر ونشيل ونرمي في شماعة المستعمر، بينما غيرنا من الأفارقة حولنا الذين تحرروا قبلنا وبعدنا وليس لديهم من القوة المادية والمعنوية والفكرية ما لدينا، لكنهم مستقرون إلى حد كبير، أليس عيباً على قادتنا وساستنا أن نظل طيلة هذه الفترة دون رؤية لمسيرة وطننا، فهل يخرج الحوار الوطني في مطلع العام الجديد بما يضع السودان على طريق النماء والتصالح مع الذات ونبذ العنف والصراع في كل مناطق النزاعات والحروب. نأمل ذلك وليس علي الله بعزيز.

د. أحمد عثمان خالد
الانتباهة

Exit mobile version