> من الصعب حقاً، تصور أن عملية الحوار الوطني، عملية ستكون نهايتها صفرية، نظراً للتطورات الراهنة في البلاد، خاصة تلك المتعلقة بقضايا الحوار نفسها التي قد تتعرض لنكسة إن لم يتحرك كل الفاعلين في تجسيد وقطف ثمار ما اتفق عليه حتى اللحظة، وقد أعلنت الأمانة العامة للحوار أكثر من مرة، أنها تسجل ما يتم الاتفاق عليه في اللجان الست، وتسعى من لجنة «7+7» والقوى المشاركة في مواصلة التحاور لحسم ما يختلف عليه، ويبدو أن أول اختبار حقيقي للجنة الحريات هو ما حدث لبعض الصحف وإصدار السلطات أوامر بتعليق صدورها، وهو أمر يتناقض مع ما قيل من قبل من تعهدات في هذا الشأن.
> ولذلك يمكن أن يجد المتشككون ألف حجة للزعم بأن الحريات في خطر، مع العلم اليقين بأن حرية للصحافة مثلاً جزء أصيل لا يتجزأ من الحريات العامة ولا يمكن تبعيضها حتى وإن كانت الصحافة مخطئة أو ارتكبت جريرة لا تغتفر، فالأصل هو الحرية وما سواه إجراءات استثنائية.
> اذا كانت الحكومات والأنظمة التي تعاني بلدانها من الأداء الصحافي وحرية الصحافة المطلقة، قد ابتدعت وسائل للضبط في التعامل مع النشر الصحافي المتجاوز، فالأحرى بنا أن نطوِّر من وسائلنا في معالجة أي جنوح وانحراف في الممارسة الصحافية الخاطئة، وليس الإيقاف والمصادرة هو العلاج الناجع، لما له من أثر سياسي سالب يحتاج بعدها إلى فترة طويلة لمعالجته ودرء آثاره، خاصة عندما يكون هناك ترابط عضوي وتلازم مستمر بين حرية الصحافة والحرية السياسية وسائر الحريات العامة، التي يحاول الحوار الوطني ترسيخها وتجذيرها.
> أما في الدول التي تجاوزت هذه المعضلات، فإن القانون والقضاء هو الجهة الوحيدة التي تتعامل مع ما ينتج من الصحافة من تجاوزات، والقانون فيها رغم كفالته للحرية الصحافية فهو أكثر صرامة وربما أشد قسوة وإيلاماً في بعض الحالات من أية إجراءات ذات طبيعة أخرى التي تحدث في بلادنا، كلنا نتطلع أن نطوي صفحة الإيقاف وتعليق صدور الصحف، ونتواضع جميعاً على جعل القانون هو الحكم والفيصل في الأضرار التي تقع على المجتمع والمؤسسات والأفراد والدولة، لكن لابد من إطارات عامة تحدد حدود ومستوى التعامل والقواعد العامة والمبادئ التي تحدد الصحافة الأخلاقية وفضاءها المهني المحرم للخروج عنه.
> لقد بحت الأصوات من الحكومة ومن الصحافة نفسها في الحديث عن كيفية الخروج من الدائرة الجهمنية كلما أخطأت صحيفة أو لم يعجب المسؤولين أداءها ضربت في وجهها وأوقفت، ثم تتدخل الوساطات والأجاويد، ويكثر المارين على دروب الحل وتقدم مقترحات وتفاهمات وتعهدات ثم تعاود الصحيفة الصدور مرة أخرى، وقد تلجأ للقضاء وتكسب قضيتها.
> هذه الحلقة والدائرة التكرارية المتواترة، يجب أن تنتهي بإطار عام وحل نهائي حتى تترك الصحافة تعيش وتلتقط أنفاسها، سبب رئيس يجعل الصحافة السودانية تنكب الجادة وتغرق في وحل التجاذب والخلاف وتواجه غضب الدولة والحاكمين، هو عدم تواصل تجربتها وخشيتها المستمرة وسواسها القهري إن الحكومة تتربص بها وتترصد أخطاءها وتتحين الفرص لتضع السكين على نحرها، وتستحل دماءها، وهذه الحالة التي باتت تسيطر على الصحافة تكون قاصمة ظهر في القريب العاجل إن لم ينصلح الحال، ولا نحتاج الى التنويه والتذكير أن صحافتنا الورقية هي نفسها تواجه مخاطر وصعوبات جمة قد تقود إلى نهاية مأساوية لها بسبب غلاء كلفة صناعتها وعدم القدرة على التوفر على مدخلات إنتاجها بأسعار معقولة مع تراجع التوزيع الإيرادات وأفول نجم الإعلان الصحافي، فالإعلانات الصحافية بعمولاتها والضرائب والقيمة المضافة لم تعد دخلاً يؤبه له في العملية الصحافية، وباتت الصحف لا تحصل إلا على نسبة ضئيلة جداً من قيمة الإعلان، فضلاً عن صعوبة تحصيل قيمته من الجهات المعلنة.
> ما يجعلنا نتمسك بقيمة الصحافة وندافع عن حريتها، إنها حتى حين هي أيقونة الحرية والديمقراطية والصورة والزاهية للتطور الاجتماعي وعنوان للوعي ورقابة المجتمع على نفسه وعلى حكامه.