عجلة الحياة

لا تتأففوا من بيوت تملأها الفوضى.. تتبعثر فيها الكتب والمجلات والأقلام والأحذية الصغيرة والجوارب.. لا تنزعجوا من البكاء غير المبرر.. من الصراخ والأصوات المرتفعة.. من الشجار بين الأطفال.. من بحث أحدهم عن حقيبته المدرسية.. ومن آخر يصرخ طالباً مصروفه على عجل.
لا تستاءوا من بقايا البسكويت وأكواب الشاي الملطخة على الصينية.. من أعقاب الساندوتشات على الطاولة.. من (البلي) والعرائس وكرة القدم التي تتدحرج تحت أقدامكم في أرجاء المنزل.. ومن الألعاب المتناثرة في غرفة الجلوس!
لا تجأروا بالشكوى من أعباء الحياة ومسؤولياتها.. من مصاريف البيت التي تكسر الظهر.. من المعاناة اليومية في تصريف شؤون العائلة والأبناء.. من طلباتهم التي لا تنتهى.. ونفقاتهم التي لا تتناقص.
لا تملوا من فوضى كل صباح.. والسباق على باب الحمام.. والربكة التي يحدثونها من حولك.. والاستيقاظ المبكر قبل أن تأخذ ما تحتاجه من راحة..
من تحضير الساندويشات وتمشيط الشعر ومسح الأحذية.. من (تجليد) الكتب وتدبيس الكراسات..
من ترتيب البيت الذي يضج بالفوضى.. وشراء اﻷغراض.. والتسوق.. وإعداد الطعام.. وانتظارهم بقلق حتى يعودوا بأمان ثم تحضير الغذاء والاستذكار.. وشرح الدروس.. ومراجعة الواجبات.. وتسميع القرآن والأناشيد.. وحل المسائل الحسابية.. والتقويم.. والتأديب.. والتربية.
ولا تفرح بساعات الهدوء التي ننتظرها نهاية كل يوم حين ينام الصغار، على اعتقاد أنها وقت راحتك الحقيقي.. ولا تركن لاعتقادك بالمعاناة والرهق..
أرجوك.. استمتع بكل لحظاتكم معاً.. وانهل من معين طفولتهم البريئة الذكية وارتباطهم الحميم بك وحاجتهم الدائمة لك.
فغداً سيكبر الصغار.. وستكبر الهموم.. وتبرد العواطف.. وتتباعد المسافات.
ستزداد الفتيات حساسية وغموض وجرأة.. سيهمسن في الهاتف.. ويغلقن الغرفة.. ويطالبن بالمكياج..
وسيزداد الفتيان ضخامة وقوة وهدوء..
وسيتباهون بالشاربين واللحية والصوت العالي وزحم الأصدقاء والبراعة في القيادة.
سيبدأ كل منهم باختيار طريقه والاستقلال بتفكيره واختيار علاقاته وتحديد مساره..
حياة جديدة ستبزغ من قلب هذا البيت الذي صنعته أنتَ وأنتِ يوماً.. وقد تكون حياة مختلفة تماماً عن ما عشتمونه أو خططتم له!
وسيحمل بيتكم لقب العائلة الكبير.. لأن هناك عائلات صغيرة ستخرج من رحمه الميمون.
سيغادرون البيت واحداً تلو الآخر بحثاً عن سعادتهم، منهم من سيتزوج.. ومنهم من سيسافر طلباً للعلم.. ومنهم من ينتظر أقرب فرصة ليحلق بعيداً باحثاً عن حلم يراوده، وإن كان لا يراودكم.
سيصبح المقيمون في البيت فقط ذلك الثنائي الأساسي.. من ولدوا وربوا واجتهدوا وعانوا وتذمروا وتضجروا يوماً.. وسيجترون ذكريات من مشوا على جنباته وترعرعوا فيه.. وقرصهم ناموس الصيف اللئيم.. وباعوض الشتاء السخيف.. من ارتفعت حرارتهم وسهرت العائلة على وضع الكمادات الباردة على جبينهم ودعت لهم بالشفاء.
فجأة سيصبح هؤلاء الأحباب ضيوفاً.. يجتمعون عندك لماماً.. ويأتونك على عجل.
وكما بدأت العائلة بشخصين يافعين.. حملتهم السنوات ودارت بهم الأيام.. وفعلوا ما بوسعهم لإعمار هذا البيت بالحياة.. ستعود لتنتهي بشخصين أديا رسالتهما وجلسا يستعرضان تاريخهما المجيد ويجترا الوقائع فيضحكان أو يبكيان..
يجلسان على أبواب الانتظار.. على أمل أن يطلّ عليهما وجه أحد من الأولاد الذين كبروا أكثر مما كنا نتوقع، ولكنهم يظلون في خاطرنا صغاراً على الدوام، ولكن عجلة الحياة تمضي بهم حتماً، ولن تتوقف عندنا للأبد.
تلويح:
استمتعوا بطفولتهم.. ليكرموا كهولتكم.

Exit mobile version