بعد الفراغ من زيارة مريض سوداني بمستشفى القصر العيني وسط العاصمة المصرية القاهرة استقللنا عربة تاكسي نحو حي المهندسين قاصدين مجمعاً طبياً لاكمال إجراءات حجز لمقابلة أحد اختصاصيي الباطنية، وفي الطريق الى الحي الراقي سألنا سائق عربة الأجرة عن وجهتنا التالية فحددناها له وكانت فندقاً بوسط القاهرة، إلا أنه فجأة ودون مناسبة ومقدمات أكد جاهزيته لاصطحابنا الى شارعي الهرم وجامعة الدولة العربية مساءً إن رغبنا في زيارتهما، وقبل أن يكمل حديثه اعتذرت إليه ،غير أن مرافقي سأله ” ماذا يوجد في الشارعين”، فضحك وأجابه ” توجد بنات ليل “، ولم يزد في إجاباته هذه، ولم يشأ صديقي الاستفاضة في الحديث، لتمر الأيام لأستدعي تلك الحادثة لأسقطها على ممارسات ما تزال في طور التخلق ولم تصل بعد مرحلة الظاهرة ـ بحسب البعض ـ وهي تلك المتمثلة في ظهور فتيات متهمات بأنهن “بنات ليل” يتخذن عددا من طرق العاصمة الرئيسية مكاناً لجذب الزبائن ، فيما يتحركن متهمات أخريات الى شقق مفروشة ، وحاولنا تتبع رأس الخيط لنستوثق من أن “بنات الليل” حقيقة أم إن الأمر مجرد ظنون وشائعات لا ترتكز على أسانيد.
جولة ميدانية
وللتقصي ميدانياً كان لزاماً علي تسجيل زيارة الى عدد من “الشوارع ” التي يتحدث البعض عن احتضان جنباتها الأسفلتية فتيات في أعمار مختلفة يتواجدن عقب الساعة العاشرة مساء كما أشار الى ذلك احد الشباب الذي تجمعني به علاقة صداقة، فسألته عن أسباب تواجدهن، فأجاب قائلاً: بعضهن يجمعهن موعد مسبق مع أحد أصدقائهن ويتنظرنه ليأتي لاصطحاب إحداهن الى حيث “الوكر” أو المنزل الذي يريدان أن يقضيا فيه ليلتهما، وقال إن هناك فتيات يقفن في” الشوارع” بعيدًا عن محطات المركبات العامة ويلوحن أحياناً بأيديهن للعربات الخاصة وأمثالهن على استعداد للذهاب مع صاحب العربة الى حيث يريد، وذلك نظير مبلغ يتفق عليه الطرفان، أما الفئة الثالثة فكشف عن أنها تتمثل في فتيات يخرجن في هذه الساعة وهن أقرب إلى ممتهنات الرذيلة وعلى استعداد لمرافقة صاحب العربة الذي يتوقف لهن وهن يلوحن بل بأيديهن لإيقاف العربات.
بكل صدق صدمني حديثه هذا وكنت أعتقد انه من باب المزاح إلا أنه أقسم لي بأن كل ما قاله حقيقة، ومرة أخرى استدعيت عددا من القصص التي كانت تسرد في مجالس مختلفة وتؤكد وجود “بنات ليل” بطرق الخرطوم الشهيرة،هونت على نفسي بأن الأمر محدود وأن السلطات المسؤولة من الانضباط والمظهر العام قادرة على محاصرتها بل استئصالها، إلا أن الواجب الصحفي ظل ينادي دواخلي بأن الصحافة جزء من المجتمع وعليها أن تسهم في إلقاء الضوء على السلبيات التي تبرز حتى ولو كانت محدودة وذلك انطلاقاً من دورها كسلطة رابعة .
شارع النيل..متهم أول
أحد الأصدقاء حدد لي “الشوارع” التي أكد بأنها تشهد نشاط بنات الليل، وبالتأكيد يظل شارع النيل بكل جماله وحركته التي لا تهدأ ليلاً متهماً أول حتي وإن كان بريئاً ـ ولو كان يملك القدرة على الحديث لصرخ مطالباً برفع الظلم عنه ـ ولكن رغم ذلك توجهت صوبه وتحركت ما بين جسري توتي وبحري وأنا أرصد حركة المارة وكنت أتمنى ألا تقع عيناي على مشهد يعضد تأكيد البعض بوجود “بنات ليل”، وبعد جولة قصيرة لم ألحظ خلالها ما هو خارج عن المألوف جلست الى بائعة شاي وتجاذبت معها أطراف الحديث عن الوضع الاقتصادي والمعاناة التي يتكبدنها في سبيل توفير “لقمة العيش” الحلال وهن يعملن معظم ساعات اليوم، فوافقتني الحديث ولحسن حظي لم يكن هناك مرتادون لمحلها فواصلت “الونسة” العامة معها، الى أن تجرأت وسألتها عن ظاهرة بنات الليل فنظرت الى بتعجب وربما استنكار ولم أجد حيال نظرتها غير إفادتها بهويتي الصحفية والهدف من جولتي على شارع النيل، فصمتت دون أن ترد وحسبت أنها قد غضبت من حديثي ولكنها تحدثت بعد ذلك وقالت: توجد الكثير من الممارسات السالبة في المجتمع ومعظمها لم تكن مألوفة من قبل، وأعتقد أن عدد من الفتيات أصبحن يستسهلن الحصول على المال ولا يبذلن في سبيل هذا الأمر جهدًا كالذي نبذله نحن نهاراً ومساء في بيع الشاي، نعم توجد بنات ليل ومن خلال تواجدي بشارع النيل منذ فترة ليست بالقصيرة لاحظت هذا الأمر، ومعظمهن بنات في سن الزواج وبكل صدق أتعجب من اتجاههن نحو ممارسة الرذيلة لجني المال، وأشارت الى أن هناك فتيات معروفات يحضرن بصفة شبه دائمة الى شارع النيل ويجلسن في أماكن معروفة ثم يذهبن برفقة شباب ورجال في عربات، وتقول إن شارع النيل به تواجد مكثف من القوات الأمنية وهذا أسهم في ضبط المظهر العام، غير أنها تشير الى صعوبة إيقاف الشرطة لفتيات يقفن في الشارع ويلوحن للعربات وذلك لأنهن كما يبدو ظاهرياً لم يرتكبن جريمة.
جولة ثانية
بعد حديثي مع الخمسينية بائعة الشاي التي بدأت ناقمة على الكثير من الممارسات السالبة مثل ظاهرة “بنات الليل” تجولت مجدداً في شارع النيل وقد لاحظت أن هناك فتيات يقفن على الجزء الجنوبي من الطريق ورأيت ثلاث منهن يركب عربة واحدة، فقلت ربما كان قريبهن، ومرة أخرى رأيت على مقربة من فندق كورنثيا فتاة تصعد الى عربة فارهة سريعاً ما توارت عن الأنظار ولأنني رافض لفكرة وجود بنات ليل قلت ربما كان قريبها رغم أن الساعة كانت الحادية عشر مساء ومظهرها كان متحرراً.
أما المشهد الذي لفت نظري واستوقفني فقد تمثل في فتاة كانت تتخذ مكاناً قصياً بشارع النيل قبالة جامعة الخرطوم ولأنني كنت على مقربة منها لم أشاهدها تلوح للعربات المنطلقة بسرعة ولكن فجأة توقفت أمامها عربة فارهة أيضاً ولم تصعد ولكنها تجاذبت أطراف الحديث مع صاحبها لفترة لا تقل عن ثلاث دقائق وحاولت الاقتراب أكثر إلا أنها صعدت الى العربة وكل ما سمعته كلمة “خير”، وأيضاً لم أستطع التأكيد على أنها من بنات الليل ولكن مظهرها كان يوحي بذلك ـ إلا أنه لا يصلح ليكون منصة أطلق عليها الأحكام المسبقة، وفي ذات المساء توجهت الى شارع عبيد ختم وفي أحد جنباته المعتمة وعند الحادية عشرة مساء تفاجأت بشابة تقف في الطريق ولا تلوح للعربات فحدثتني نفسي أن أتوجه صوبها مباشرة ورغم شعوري بالخوف إلا أنني تشجعت وذهبت نحوها وبعد أن ألقيت عليها التحية التي ردتها دون تخوف وبل بأريحية سألتها عن وجهتها فصمتت لحظة حتى إنني خشيت من ردة فعل غاضبة تدخلني في إحراج إلا أنها قطعت حبل تفكيري وبددت مخاوفي حينما سألتني “عندك فهم محدد ولا شنو”، وارتبكت في الإجابة بعض الشي ولكن تحليت بالشجاعة وقلت لها “خمسيناية”، فأشاحت بوجهها عني وتحركت وهي تردد” متر ونص”، لم أشأ مواصلة حديثي معها لأنها بدأت زاهدة في الحديث معي ، وبعد ذلك واصلت جولتي بالشارع الذي يحمل اسم رجل لو كان حياً وشاهد الانحلال الذي وصلت إليه البلاد في الوقت الراهن .
أسرار وحكايات
في اليوم الثاني لجولتي بشارعي النيل وعبيد ختم لجأت الى أحد الشباب ليساعدني في تقصي حقيقة وجود “بنات ليل” فأكد وجودها وكشف عن أن هناك عددا من العلامات التي تميزهن ، وأضاف: بعضهن يرتدين ملابس محترمة لا تدل على أنهن من بنات الليل، وذلك للتمويه وإبعاد الشبهات عنهن وهؤلاء يتحركن في شوارع معروفة ولديهن زبائن محددين، وهناك فتيات يذهبن الى الشوارع المشهورة ويقفن على جنباتها ويدركن جيدًا أن ثمة أشخاصا يقودون عربات فارهة سيتوقفون لاصطحابهن، ويشير الى أنه بشارعي عبيد ختم والستين توجد هذه الظاهرة، موضحاً عن وجود علامة اخرى يمكن عبرها معرفة “بنات الليل” وتتمثل في تقديم الفتاة لرجلها اليمني وهي واقفة على الطريق، وحديث الشاب عن شارع عبيد ختم يحمل مصداقية كبيرة لجهة تطابقه مع تحقيق أجرته من قبل الزميلة”الوطن” في ذات الإطار حيث أطلقت عليه شارع عبيد “خطف” كناية عن توقف العربات الفارهة لحمل “بنات الليل”.
شوارع شهيرة
من خلال بحثي المتواصل عن ظاهرة “بنات الليل” اتفق معظم الذين التقيتهم على أن هناك عدداً من الشوارع المشهورة في العاصمة بوجود بنات الليل أبرزها شارع النيل، عبيد ختم، شارع المطار، صينية السوق المركزي، الطريق المؤدي الى كبري المنشية من الناحية الغربية، شارع الإنقاذ ببحري والعرضة بأم درمان، الطريق القصير الذي يقع غرب فندق كورنثياً، وأخبرني الشاب أن من أبرز علامات بنات الليل ارتداء بعضهن نقابا وأخريات لا يتحرجن في ارتداء الأزياء الفاضحة أو العادية، واضاف: هناك نساء يعملن في هذا المجال ويمارسن دور”القوادات” حيث ترافق الفتاة التي تمارس “التسكع في الشوارع” وحينما تتوقف عربة تصعد معها وتقوم بدور المفاوض الى حين الاتفاق ثم تترجل من العربة بعد استلام جزء من المبلغ وتحمل معها أيضاً “شنطة وموبايل” الفتاة وحينما سألت عن سبب ذلك علمت أن الغرض هو للحيلولة دون تعرضها للسرقة.
ابتزاز
وفي إطار بحثنا عن ممارسات بنات الليل سجلنا زيارة لاثنين من المحاكم بالخرطوم، وأشار مسؤول بأحد المحاكم “فضل حجب اسمه” الى أن بلاغات الدعارة والأفعال الفاضحة باتت كثيرة وسرد لنا الكثير من القضايا والنماذج، وأكد أن القاسم المشترك بينها وجود فتيات في أعمار دون الثلاثين عدد منهن طالبات جامعيات، وقال إن هناك عددا من بنات الليل يترددن كثيراً على المحاكم رغم الأحكام التي تصدر بحقهن، وقال إن إحداهن من قبل وبكل وقاحة قالت “ما نمارسه استثمار، ألم تقل الحكومة أنها تشجع الاستثمار”. وكشف عن أن هناك نوعا من بنات الليل يمارسن الابتزاز بالاشتراك مع آخرين، وقال إن عملهن يقوم على تصيد أصحاب المركبات الفارهة وذلك عبر وقوفهن في ساعات متأخرة من الليل في الطرقات والتلويح بأيديهن وعندما يصعدن الى السيارة يطالبن سائقها بتوصيلهن وفي منتصف المشوار تأمره بالتوقف ولكنها لا تترجل من العربة بل تخيره بأن يدفع لها مالاً أو لفت أنظار من هم بالشارع والإشارة الى أنه حاول اغتصابها، وقال إن الكثيرين يدفعون مجبرين ما تطلبه الفتاة خوفاً من “الفضائح”، ولفت إلى أن هناك نوعاً آخر من الابتزاز يمارس على نطاق واسع ويتمثل في أن تذهب فتاة الليل مع أحدهم الى منزله أو شقته وبعد وصولها تجري اتصالياً هاتفياً بأخرين تكون على تنسيق مسبق معهم وهؤلاء وبعد أن تمدهم بمعلومة وصف مكانها وفي وقت محدد يقتحمون المنزل ويشهرون بطاقات عسكرية مزورة ويمارسون ابتزازا على المجنى عليه بل يقومون بتصويره وحيال هذا لا يجد غير الاستجابة لمطالبهم وغالباً تكون مبلغاً مقدرًا من المال.
أدلة وإثبات
وذات يوم جولتنا، قضت إحدى محاكم الخرطوم بمعاقبة “ثلاثة طلاب جامعيين ضبطتهم الشرطة داخل شقة مفروشة في وضع مخل بالآداب حيث حكمت على المتهم الأول بالغرامة “1500” جنيه والجلد “30” جلدة بعد أن عثرت الشرطة داخل هاتفه الجوال علي أفلام فاضحة ، وحسب وقائع القضية فإن حارس العمارة اتصل على الشرطة وأخطرهم بأن هناك شباباً من الجنسين يحضرون بصفة مستمرة الى الشقة بعد منتصف الليل وبعد أن تمت مراقبة الشقة من قبل الشرطة ومداهمتها تم ضبط المتهمين داخلها في أوضاع مخلة بالآداب، وكانت المحكمة قد استجوبت المتهمات اللواتي أشرن الى أنهن حضرن على متن سيارة صديقهن الى الشقة “لقضاء حاجتهن” وأنهن عندما حاولن الخروج اعترض طريقهن حارس العمارة، وأفاد أحد المتهمين أن الشقة مملوكة لطالب بكلية الطب ودائماً ما تشهد فتيات فيها بعد منتصف الليل.
الخطر يتمدد
ويشير المحامي عوض الله إسماعيل هارون الذي ترافع عن الكثير من القضايا ذات الصلة بموضوع تحقيقنا، إلى أن ظاهرة بنات الليل باتت منتشرة بكثافة خلال الفترة الأخيرة، ويقول في حديث لـ(الصيحة) إنهم ومن خلال تواجدهم في المحاكم فقد ظلوا يلحظون ارتفاع نسبتها، معتبرها خارج مألوفات المجتمع السوداني، وقال إن بلاغات المادة 176 وهي المتعلقة بالابتزازات باتت أيضاً في ارتفاع ملحوظ بل أقرب الى الجريمة المنظمة، وتتمثل في اصطياد بعض الفتيات لأصحاب المال وممارسة ابتزاز عليهم حتى لا يتعرضوا “للفضائح”، وأضاف: هنالك فتيات يقفن بصورة منظمة في الشوارع كأنهن بحاجة إلى مساعدة ولكن عندما تتوقف العربة لها وتصعد إليها يظهر فجأة من يدعون أنهم ينتمون لقوات نظامية فيمارسون الابتزاز على صاحب العربة حتى يحصلوا على أكبر قدر من المال، ويكشف عن تعرض رجل أعمال من قبل لابتزاز كلفة 80 مليون جنيه إلا أنه لجأ الى تدوين بلاغ ضد الجناة، وقال إن المادة 154 وهي المتعلقة بالدعارة أيضًا باتت كثيرة في المحاكم ومعظم اللواتي يتم القبض عليهن فتيات جزء منهن صغيرات في أعمارهن، وقال إن المادة 152 المتعلقة بالأفعال الفاضحة والمخلة بالآداب، ويرى المحامي عوض الله أن انتشار هذه الجرائم يعود الى أن العقوبات لا تكون رادعة وفي غالب الأحيان تتخلص في دفع غرامة مالية تتراوح بين المليون الى العشرة ملايين جنيه وأن الذين يمارسون هذه الأفعال دائماً يملكون القدرة على دفع الغرامة وهذا ما يفسر عرض بعضهم أكثر من مرة على المحاكم، وقال: من قبل حضرت محاكمة طالبة جامعية تقطن في احدى الداخليات أكدت بأن خروجها ليلاً جاء بسبب وضعها الاقتصادي وان ممارستها للفاحشة لجني المال، وكشف عن تخفيف المحكمة العقوبة عليها مراعاة لظروفها، مبيناً عن أن معظم بنات الليل واللواتي يتم القبض عليهن في الشقق طالبات جامعيات، وأن هناك أخريات يمارسن الدعارة على سبيل المهنة والاحتراف.
الصيحة