زمان كان الزي المدرسي لتلاميذ المدرسة الابتدائية هو (الجلابية).. وفي يوم السبت من كل أسبوع وفي طابور الصباح تجرى عملية (تفتيش) ما تحت الجلابية.. للتأكد من معايير النظافة الشخصية لدى التلاميذ.
يمر المعلم على الطابور حاملاً في يده السوط بعد أن يطلب من التلاميذ (رفع الجلابية).. ليحدق في مستوى نظافة الملابس تحت الجلابية المرفوعة.
وزير المالية لما هددنابـ(رفع الدعم) هو يعلم أنه لا دعم ولا يحزنون بل هو قرار برفع الأسعار،(رفع الجلابية) لا أقل ولا أكثر.. لكن المشكلة إذا أصرّ وزير المالية على (رفع جلابية) الشعب السوداني.. فلن يجد هذه المرة تحتها شيئاً.. فقد باع الشعب آخر (سروال) يملكه..! فهو في حالة (Um Fakoo).
ومع ذلك صدقوني أن خطورة المسألة ليست في رفع الأسعار مهما علت في سماء شاهقة واستعصمت بالبعد عنا.. المشكلة في (علاقة الدولة بالإنسان).. فشعوب أخرى لم تعانِ من رهق الأسعار ولا ضيق الحال والمعيشة ومع ذلك ثارت ثورة هوجاء ضد حاكميها.. ليبيا وتونس وسوريا مثالاً.. هل كان الشعب الليبي عندما انفجر في 17 فبراير عام 2011 يكابد (رفع الأسعار/الدعم)؟، هل كان من الأصل في معيشته خانق يخنقه؟، ونفس السؤال يسري على الشعب التونسي والسوري الذي لا يزال يشتعل ناراً رغم تشتته في الآفاق.
دائماً الخطورة من حالة إحساس الشعب بالإهانة والهوان.. أنه ليس شريكاً في قرار بلده ومصيرها.. بل مجرد ضيف ثقيل على وزير المالية الذي وصفه بأنه شعب (عاطل) و(مستهلك) وللأمانة لم يقل (مستهبل)!.
الذي يسود الشارع السوداني العام- الآن- ليس الخوف من زيادة الأسعار.. بل الغضب من زيادة الاستهانة والهوان.. وفي هذا لا يلام وزير المالية وحده؛ فهي سياسة ومنهج تفكير حكومي شائع يفترض أن شعب السودان من فرط سذاجته وبلاهته.. يصدِّق البيانات الحكومية.. و(يشرب اللبن ويغسل فمه وينام بدري).. وأنه شعب (تاكل وتقش ايدك في جلابيتو).
الذي لا تعرفه الحكومة عن الشعب السوداني أنه مستعد أن يقطع من لحمه ودمه ويدفع بكامل إرادته لأي مشروع يحس أنه فيه مختار لا مقهور.. وأنه مكرم لا مهان في قراره وتقرير مصيره.. لكن المشكلة أن الحكومة لا تشعر بمتعة الحكم إلا إذا أحست بأنها قادرة على إرغام الشعب على تقبل ما لا يُقبل.. وهنا لب القضية وأصل المشكلة السياسية المستفحلة في بلادنا.
أزمة الحكم في بلادنا هي أزمة (ثقة)!.