في ديسمبر من العام الماضي، أي قبل عام بالضبط، أكد وزير المالية في عرضه لمشروع الموازنة العامة أمام البرلمان أن ميزانية 2015 لن تشهد أي رفع للدعم عن المحروقات، وكشف الوزير أن انهيار أسعار النفط عالمياً يحقق فائضاً لخزينة الدولة كان يذهب للدعم قدره (650) مليون دولار في العام .
ومن ديسمبر 2014، إلى ديسمبر 2015، شهدت أسواق النفط العالمية المزيد من التراجع في الأسعار، إذ تهاوى برميل خام (برنت) إلى أقل من (43) دولاراً هذا الأسبوع، بينما كان في حدود (55) دولاراً نهاية العام الماضي .
والحال إذ ذاك، وبتلك الحسابات مقروءة مع تكلفة إنتاج برميل البنزين في مصفاة الخرطوم التي لا تتجاوز (15) دولاراً، فإن الحديث عن دعم يذكر للمحروقات يصبح من قبيل التضليل والتعمية، إن لم نقل الضحك على الذقون .
أين هي الـ(650) مليون دولار التي بشر بها وزير المالية عند طرحه ميزانية العام الذي تبقت له أيام، علماً بأن ما طرأ على أسواق النفط العالمية خلال الأشهر الـ(11) الماضية يشير بوضوح إلى إمكانية زيادة الفوائض المخصصة للدعم وفق حسابات وزارة المالية إلى نحو (مليار دولار)، فالوزير كان يتحدث في زمن كان فيه سعر خام النفط (55) دولاراً، وهو الآن ينحدر إلى هاوية الـ(40) دولاراً بفارق ضئيل عن أسعار حقبة الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 2009 عندما بلغ سعر النفط (37) دولاراً فقط للبرميل!
هذا عن البترول .. فالبنزين ينتجه الشعب السوداني من تكرير (130) ألف برميل خام يومياً تكفي حاجة البلاد، أما الجازولين فقد انهارت أسعاره عالمياً على النحو الذي ذكرنا آنفاً .. فعن أي دعم يتحدث “بدر الدين”؟! ولماذا تضع المؤسسة السودانية للنفط أو الشركة التابعة لها فوائد كبيرة على سعر البرميل المستورد، وبلادنا في مثل هذه الظروف ؟!
ثم نأتي إلى القمح والدقيق الذي قاتلنا في معركته بقوة وصدق وقناعة .. لا لمصلحة خاصة أو لترغيب بـ(دعم) أو تهديد برفعه، قاتلنا لصالح موقف وزارة المالية ضد بعض شركات مطاحن القمح القوية والثرية والنافذة .. ما يعرضنا للخطر .. وللخطر أوجه متعددة، لكننا لم نخشَ .. وقد كان .. وكسبت المالية المعركة بعد غبار كثيف، ورفعت سعر دولار القمح المدعوم من (2.9) جنيه إلى (4) جنيهات، ثم دفعة واحدة رفعته إلى (6) جنيهات خلال أقل من شهر من الرفع الأول وسط دهشتنا نحن مناصروها !!
وإذا علمنا أن سعر الدولار الرسمي حسب بنك السودان المركزي هو (6.1) جنيهاً للبيع، وأن دولار القمح والدقيق صار (6) جنيهات مؤخراً، وبالنظر إلى الانخفاض الكبير في أسواق القمح عالمياً، فإن الادعاء بدعم القمح والدقيق، ومن ثم مطالبة البرلمان برفعه يصبح من قبيل (البجاحة) ولا أقول (الوقاحة) السياسية.
أما الكهرباء، فإن غالبية إنتاجنا تأتي من التوليد المائي وليس الحراري، وقد انخفض بسبب شح الأمطار لهذا العام، فضلاً عن تعطل عدد من ماكينات التوليد الحراري، وعجز الدولة عن صيانتها وتوفير الوقود اللازم لتشغيلها رغم هبوط أسعار المحروقات في كل الدنيا، عدا السودان!
معلوم أن التوليد المائي تكلفته زهيدة جداً، وهي أدنى من سعر الكيلو واط الذي تبيعه شركة توزيع الكهرباء حالياً، ولهذا وعد الوزير السابق “أسامة عبد الله” بتخفيض سعر الكهرباء، لا زيادتها، فور دخول توربينات (سد مروي) في الشبكة القومية، ولكن لم يحدث ذلك لأسباب مختلفة، من بينها زيادة الطلب على الكهرباء.
التسمية الحقيقية التي ينبغي ألا يستحي منها السادة الوزراء هي (زيادة أسعار) المحروقات والدقيق والكهرباء، لمقابلة العجز في الموازنة، وليس (رفع الدعم).
إن الذي يجب أن يفهمه السادة وزراء القطاع الاقتصادي أن وزاراتهم ليست (تاجراً) يشتري وحده .. ويبيع .. ليربح أو يغطي التكلفة في أسوأ الأحوال، بل هي وحدات في منظومة اسمها (الدولة)، فإذا كان هناك عجز في فاتورة القمح، أو الكهرباء أو المحروقات، فإن هناك عائدات من جهات أخرى يدفع فيها المواطن (دم قلبه)، فكل مواطن (عاطل وغير منتج) – حسب وصف الوزير “بدر الدين” – اشترى سيارة صغيرة من مال أبيه أو أخيه المغترب بقيمة (200) ألف جنيه، يكون قد سدد لخزينة “بدر الدين” العامة عبر (الجمارك) ما لا يقل عن (100) ألف جنيه، لأن رسوم جمارك العربات أكثر من (100%) في سودان “بدر الدين” وجماركه .. دون بقية جمارك الدنيا! وكل مواطن (غير منتج) اشترى علبة لبن لطفله بقيمة (80) جنيهاً، يدفع (40) جنيهاً للجمارك مقابل كل علبة لبن .. كل أسبوع !! هذا غير الضرائب المليارية التي تتجاوز (الربط) والعوائد ورسوم المحليات وتراخيص شرطة المرور والجوازات والعبور، ومال الطيران المدني بالجنيه والدولار واليورو .. و … و …. !
إذا كانت الحكومة تنفق في (الفارغة والمقدودة) كما ينفق أمراء الخليج، فهذا ليس ذنب الشعب السوداني، والشعب لا يصبح منتجاً إذا لم تكن قيادته توجه ثرواته لمواقع الإنتاج، وتدعم الزراعة وترفع أتاواتها عن الصناعة حتى لا يهرب المستثمرون إلى إثيوبيا. فليسأل الوزير “بدر الدين” نفسه: لماذا هربت (600) مشروع سوداني استثماري صناعي وتجاري إلى إثيوبيا باعتراف وزير الاستثمار السابق ؟!
لماذا ينتج السودانيون في بلاد الأحباش ودول الخليج العربي وأوربا وأمريكا، ولا ينتجون في بلدهم ؟!
سؤال يفترض أن تجيب عليه الحكومة قبل أن تسمح لوزرائها بالحديث عن رفع الدعم المرفوع أصلاً.