التحول أو الانتقال الديمقراطي في السودان عبارة تتردد كثيراً لكنها في الوقت ذاته تلقي على كاهل متلقيها مسئولية التخيل أو رسم خارطة طريق التطبيق..
الخرطوم نفسها التي يفترض أن تنظر في موضوع العبارة بدا وكأنها لا تعير الأمر اهتماماً فغاب التنظير فيها حول الملف رغم أن شارعها العام ينضح بالمطلب.
توصل كثير من الباحثين إلى تحديد ملامح ومميزات عمليات الانتقال الديمقراطى ومقومات نجاحها، وعلى رأس أولئك الباحثين(O’Donnell)فى كتابه Authoritarian Rule: Prospects for Democracy) Transitions from)
(الإنتقال من الحكم السلطوى : آفاق الديمقراطية)، وحدد عدداً من الأسباب تُؤدى إلى هذا التحول وأهمها الخلافات التي تنشأ داخل النظام الاستبدادي بالإضافة لفقدان النظام للشرعية بسبب هزيمة في الحرب، كذلك الانهيار الاقتصادي، بالإضافة بعض الأحيان يُجرى النظام الحاكم مبادرات إصلاحية.
واستندت دراسات الانتقال الديمقراطي هذه إلى حد كبير على تجارب المرحلة التي أطلق عليها صمويل هنتنغتون تسمية “الموجة الثالثة” للديمقراطيات، وذلك في دول جنوب أوروبا وشرقها وأميركا اللاتينية وجنوب شرقي آسيا التي شهدت التحول للديمقراطية في السبعينات والثمانينات وفصّل هنتنغتون هذه التجارب فى كتابه المشهور (الموجة الثالثة : الدمقرطة فى أواخر القرن العشرين).
طبيعة الإنتقال
بحسب طبيعة كل بلد ونظامها السياسى وبنيتها الإجتماعية ووضعها الإقتصادى وعلاقاتها الخارجية يكون شكل الإنتقال. ومن أشهر أنواعه الانتقال التوافقي
ويكون الانتقال توافقياً إذا تراضت الأطراف، فتكون هناك مشاركة في السلطة، وقد قدّم د. الطيب زين العابدين ورقة بعنوان(الديمقراطية التوافقية) مساهمة منه فى عملية الإنتقال الديمقراطى السلمى وحل المشكلة السودانية. كذلك يجيء الانتقال الثوري وهناك نوعان من الثورات (شعبية و المسلحة).
والاثنان يُؤديان لانهيار النظام إنهياراً تاماً، فيقع إحلال كامل لنخبة حاكمة جديدة.
وحدد كل من (Juan Linz and Alfred Stepan ) فى كتابهما المشهور:
“ Towards consolidated democracy “ (نحو تعزيز الديمقراطية) حددا
شروط نجاح الإنتقال وتثبيت الديمقراطية وذلك بالآتى:
1\ وجود بنية متماسكة للدولة مع مؤسسة بيروقراطية فاعلة.
2\ ترسيخ حكم القانون.
3\ وجود مجتمع مدني حيوي.
4\ وجود مجتمع سياسي ذي استقلالية.
5\ ووجود مجتمع اقتصادي يقوم على المؤسسية.
وقد واجهت بعض هذه الدراسات انتقادات لكونها تعمم أكثر من اللازم وتهمل خصوصية الدول، كما تفترض أنّ كل دولة انهار نظامها الإستبدادي أو ترنح هي في طريقها إلى الديمقراطية، إضافة إلى تركيزها على العملية الانتخابية دون الإلتفات إلى شروط الديمقراطية الأخرى، خاصة عملية بناء الدولة أو الاقتصاد السليم، وقد لخّص هذه الإنتقادات الباحث(Thomas Carothers ) فى كتابه The End of the Transition Paradigm “ “ (نهاية نموذج الإنتقال).
إنتقادات لنماذج الإنتقال
يُؤكد د. عبد الوهاب الأفندى أنّ الإنتقادات التى وجهت لنماذج الإنتقال بعضها صحيح ومحق، وذلك»لأنّ معظم دراسات الإنتقال الديمقراطي بُنيت على دراسة تجارب دول أميركا اللاتينية وشرق أوروبا. ولم تكن هناك دراسات كثيرة تستلهم التجارب العربية، وذلك لسبب بسيط، هو ندرة تجارب الإنتقال الديمقراطي الناجحة في العالم العربي الذي شهد محاولات انتقال ديمقراطي في الثمانينات والتسعينات ولم تحقق معظمها نجاحا حاسما، ووقعت في بعضها ردات عنيفة، بينما بقيت أخرى تراوح مكانها أو تتراجع».
مركز دراسات الوحدة العربية اصدر كتاباً لخّص فيه نماذج الإنتقال الديمقراطي في العالم العربي بعنوان:(ديـمـقـراطـيـة من دون ديـمـقـراطـيـيـن ، سـيـاسـات الانـفـتـاح في الـعـالـم الـعـربـي – الإسـلامـي) لمؤلفه غسان سلامة.
الإنتقال فى السودان
تُعتبر الحالة السودانية استثناء في كل المحيط العربي والأفريقي، فقد شهد السودان ومنذ استقلاله ثلاثة انقلابات عسكرية، ولكنه شهد أيضاً ثورتان شعبيتان ضد أنظمة عسكرية أعادتا الديمقراطية للبلاد عبر فترة انتقالية ومن ثمّ انتخابات ديمقراطية تنافست فيها مختلف القوى السياسية.
بعض المحللين والباحثين يعتبرون أنّ أول تجربة انتقال ديمقراطي هي تجربة الحكم الذاتي في عام 1953، والتي أدت إلى الاستقلال وإقامة نظام ديمقراطي انهار بدوره في عام 1958. وكذلك يعتبر البعض أنّ اتفاقية نيفاشا – والتي أنهت حرب الجنوب عام 2005 – قد وضعت أسس انتقال ديمقراطي، كان ينبغي أن يتم على أساس انتخابات عقدت في عام 2010، إلا أن هذا المسار قد تم إجهاضه، وكانت النتيجة انفصال الجنوب واستمرار النظام القائم.
موقف النظام
النظام يعتبر نفسه ومنذ انتخابات 2010 أنّ له شرعية انتخابية، ولا يمكن لأحد أن يتحدث معه أو أن يطلب منه التنازل إلا بعد نتيجة انتخابات 2015، ولا يستجيب حتى لنداءات الإصلاح التى بداخله، وحسم رئيس الحكومة ورئيس المؤتمر الوطنى ورئيس الحركة الإسلامية عمر البشير أنه لا يقبل أى حديث أو مذكرات خارج أطر المؤسسات والمؤتمرات الرسمية، الأمر الذى أدّى لظهور مذكرة(الألف أخ)، وظهور مجموعة(السائحون)، والمحاولة التخريبية الأخيرة والتى أُتهم فيها أبناء الإنقاذ وحماتها(ود إبراهيم وقوش)، وأخيرا ما عُرف بـ(مجموعة الإصلاح)والتي يقودها د.غازي صلاح الدين.
موقف المعارضة
إذا كان موقف النظام بهذا التأرجح والإختلاف وهم أعضاء حزب واحد وأيدولوجية واحدة ، ومن باب أولى تكون المعارضة والتى تجمع بين رؤى وأيدولوجيات مختلفة ويمكن تقسيم المعارضة إلى قسمين:
1\ المعارضة المسلحة
وتشمل حركات دارفور المسلحة والحركة الشعبية قطاع الشمال والجبهة الثورية، وهى حددت رؤيتها للمعارضة واتخذت السلاح وسيلة لإسقاط النظام، ومنها من فاوض النظام فى الدوحة وأبوجا ومنها من قام بعمليات عسكرية فى مسارح العمليات بالإضافة إلى دخول أمدرمان وهجليج وأم روابة وأبوكرشولا.
2\ المعارضة السياسية
وتشمل القوى السياسية الرئيسية فى البلاد، ودائماً تعمل فى شكل تجمعات وتكتلات، فكان التجمع الوطنى الديمقراطى والذى كان يترأسه مولانا محمد عثمان الميرغنى، بالإضافة لحزب الأمة والحركة الشعبية برئاسة جون قرنق والحزب الشيوعى السودانى والقوى الأخرى.
بعد ذلك تكون تحالف جوبا ومن ثمّ تكون التحالف الأخير للمعارضة باسم(تحالف قوى الإجماع الوطنى) برئاسة فاروق أبو عيسى، وأكثر مايُميز هذا التحالف هو إنضمام المؤتمر الشعبى والذى يترأسه د.الترابى إليه بعد مفارقته لنظام الإنقاذ فى عام 1999 م، فيما عُرف(بالمفاصلة).
إتفقت أحزاب التحالف على برنامج الإنتقال للديمقراطية على وثيقة سُمّيت باسم(البديل الديمقراطي)، حددت الفترة الإنتقالية وبرنامجها وبعدها الإنتخابات، وتم تأخير إعلان البرامج الخاص بكل حزب لحين موعد الإنتخابات حتى يتم التركيز فى هذه الفترة على برنامج(الحد الأدنى) – كما تُسميه أحزاب التحالف – وهو عودة الحريات.
اعترضت مسيرة التحالف المعارض عدة قضايا، كانت سبب خلاف كبير وأدت في النهاية إلى خروج بعض القوى المؤثرة منه، وأولها هو وثيقة الفجر الجديد والتى رفضتها بعض القوى السياسية فى التحالف، وكذلك اختلفت هذه الأحزاب في مواقفها من انقلاب السيسي فى مصر. والقشة التي قصمت ظهر البعير – كما يقولون – هي ما يُعرف بالحوار الوطني.
الحوار الوطني
كان لخطاب الوثبة والذي أفرز الحوار الوطني دور كبير في تقسيم أحزاب تحالف المعارضة، حيث حضره البعض مثل الأمة والإتحادي الديمقراطي والمؤتمر الشعبي، كما وتغيب البعض مثل الحزب الشيوعي وحزب البعث وغيرها.
فالمؤتمر الشعبي دخل هذا الحوار بدون شروط وقال:إنّ أي شروط مكانها طاولة المفاوضات، ومعروف أنّ الترابى يرفض تغيير النظام بالقوة العسكرية، سواء أكانت حركة مسلحة تحمل السلاح أو انقلاباً عسكرياً، وكذلك يقول إنّ الثورة الشعبية يُمكن أن تمزّق البلاد – بالذات بعد انفصال الجنوب – وهناك مناطق أخرى مرشحة لذات المصير إذا لم تُعالج الحكومة قضايا تلك المناطق وتُعطيها نفس ما أعطت الجنوب فى اتفاقية(نيفاشا)، وهذه المناطق المرشحة هى دارفور وجنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان.
بينما الأحزاب الرافضة للحوار تُطالب بضمانات وثقة وحريات تسبق عملية الحوار.
الإنتقال من داخل الحوار
ورقة ترتيبات الإنتقال والتي قدمها المؤتمر الشعبي أثارت لغطاً كبيراً خاصة عند بعض قيادات الحزب الحاكم، والتي خرجت من طورها وقالت بأعلى صوت: (الحديث عن حكومة وفترة انتقالية هو حديث وهمي)، ورد عليه أحد قيادات الشعبي في الصحف اليومية، أنّ هذه القيادي غير مواكب لخط الرئيس.
بعض أحزاب المعارضة قالت: إنّ الشعبي قد سرق منها ورقة البديل الديمقراطي، وقال بعض أعضاء النظام أنّ الشعبي قدّم أعلى سقوفات المعارضة.
ورقة الشعبي حددت الفترة الإنتقالية بعام واحد وطالبت بحكومة انتقالية، وحددت أنّ كل من يتقلد منصباً فيها لا يحق له الترشح في الإنتخابات التي تلي الفترة الإنتقالية.
سؤال البديل
الإنقاذ أطول الحكومات عمرا فقد مكثت فى حكم السودان 26 سنة، ومثلها مثل مايو طوال فترة وجودها 16 عاما فقد شهدت تقلبات كثيرة ومتشابهة معها مثل:
1\ اليساريون الذين أتو بمايو أصبحوا ألد أعدائها، كذلك الإسلاميون بقيادة الترابي، أتو بالإنقاذ فأصبحوا من ألد أعدائها، و من أشد المطالبين بإسقاط نظام الإنقاذ بل رفضوا أى تقارب أو حوار كما فعل الصادق المهدى والميرغنى وهما اللذان استلبت الإنقاذ منهما الحكم، ثم عادوا وقبلوا الحوار مع النظام.
2\ مايو والإنقاذ تعرضتا لمجموعة من الثورات الشعبية والإنتفاضات لأسباب مختلفة وكان من بينها أسباب اقتصادية وغلاء الأسعار وتدهور قيمة الجنيه.
3\ مايو والإنقاذ تعرضتا لمجموعة من المحاولات الإنقلابية والتخريبية.
4\ مايو والإنقاذ تعرضتا لهجوم مسلح داخل العاصمة من المعارضة قوات الجبهة الوطنية أو المرتزقة 1976م، وهجوم أمدرمان من حركة العدل والمساواة 2008م
5\ مايو والإنقاذ تأججت فى عهديهما مشكلة الجنوب وفى نفس الوقت وقّعا أهم اتفاقيات سلام وهما(اتفاقية أديس أبابا 1972 م،واتفاقية نيفاشا 2005م).
6\ مايو صالحت القيادات التاريخية(المهدى – الميرغنى – الترابى) ، والإنقاذ صالحت(المهدى – الميرغنى)، واستعدت أو خسرت الترابى، ثم عادت فصالحته.
ما هو البديل ؟
ويُجاب على هذا السؤال من عدة نواحى أو جهات يعنيها هذا الأمر:
1\ الحكومة
تعتبر هذا السؤال فى صالحها، بل وتعتبره كرتا سياسياً رابحاً بالنسبة لها، حيث تقول إنّ الشعب السودانى جرّب كل ألوان الطيف السياسى من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وكذلك جرّب الحكومات العسكرية والديمقراطية، وأنّ حكم الإنقاذ شاركت فيه أو تصالحت معه كل القوى السياسية بدرجة أو نسبة ما.
2\ المعارضة
تعتبر السؤال فى حد ذاته تعجيزى وغير منطقى، ويستخدمه أهل السلطة حتى يُطيلوا بقائهم فى كراسى الحكم، بعد أن فشلت كل برامجهم وعلى كل المستويات(السياسية والإقتصادية والإجتماعية والعلاقات الخارجية) بل وفرّطوا فى أرض الوطن – ويقصدون بذلك انفصال الجنوب – ، ويقولوا إنّ (حواء السودان) لن تعجز من أن تأتى بمن يحكم السودان.
وتقول المعارضة إنّ ( البديل ) نظام وليس فرد، وهو نظام يأتى فى إطار الإجابة عن السؤال كيف يُحكم السودان ؟ وليس من يحكم السودان ؟ وذلك فى إطار نظام ديمقراطى يُتيح الحريات لكل الناس ولا يستثنى أحداً لدينه أو عرقه أو لونه.
رؤى أخرى
يرى د.غازى صلاح الدين أنّ طرح كل من الحكومة(القائم على شرعية الإنتخابات) وطرح المعارضة(القائم على إسقاط النظام) لن يحل المشكلة وإذا تمسك كل طرف بموقفه فذلك سيُعرض البلاد لمخاطر قد لا يُمكن تداركها مستقبلا.
د . الترابى فى ورقة له بعنوان(محتملات التغيير) بعد أن استعرض خيارات الإنقلاب العسكرى والثورة الشعبية والثورة المسلحة ، قال: « إنّ أفضل الخيارات – وإن كان صعب التحقيق والمنال – هو انتقال سلمى تقوم به السلطة بنفسها « .
د . الطيب زين العابدين قدّم ورقة بعنوان ( الديمقراطية التوافقية ) ، اعتبرها الوسيلة المثلى لإنتقال ديمقراطى حقيقى وسلس .
د . عبد الوهاب الأفندى اعتبر الحل فى استقالة الحكومة فوراً والإتيان ببديل ديمقراطى حقيقى منتخب من الشعب .
الشعب السودانى
يُريد الشعب السودانى بعد أنّ جرّب كل النظم والتى كانت تحكم باسمه أن يحكم هو هذه المرة ، يُريد بديلا – كائناً من كان – ينتخبه هو، ودستوراً دائماً يكتبه هو ويُصّوت عليه ويُعدّل ويُغير بواسطته هو، نظاما يحفظ لأهل السودان ما تبقى لهم من أرض، بل ويُعيد إليهم الجنوب(المضيّع)، نظاماً يحفظ لهم كرامتهم الإنسانية وحقوقهم، حتى لا نصبح مسخرة وسط دول العالم تُطاردنا أخبار المجاعات والحروب الأهلية وتهم الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، وتدنى مستويات الإنتاج والتعليم والصحة والغذاء وشبح الديون وهبوط عملتنا الوطنية وهجرة الكوادر الوطنية إلى خارج البلاد.
ولكن السؤال كيف يتم الإنتقال الديمقراطي ويأتي البديل؟ هناك رؤيتان أحدهما تقول عن طريق حوار وطني شامل وجاد يجلس فيه كل أهل السودان بلا استثناء، وآخرون يرون بإسقاط هذا النظام والإتيان بالديمقراطية، حيث يقولون لا جدوى من الجلوس مع هذا النظام.
وإلى أن تتم تنفيذ إحدى الرؤيتين على أرض الواقع، سوف يهتف الجميع(البديل لا العويل).
عبد الله مكى
صحيفة الرأي العام