نشر الكاتب المشهور روبرت فيسك مقالاً في صحيفة “إندبندنت” البريطانية، الاثنين 7 ديسمبر/كانون الأول 2015، يتحدث فيه عن الأسلوب البوليسي الذي تتبعه الشرطة في إيقاف المسلمين بتهم الارتباط بتنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش).
فيسك اعتبر أن هذا الأسلوب أشبه “بصبّ الزيت على النار”، ولن يجدي نفعاً في حماية القارة الأوروبية من “الإرهابيين”، بل “يوغر فقط صدور المسلمين” ضد الحكومات الأوروبية.
ويورد الكاتب حادثة جرت مع “منتصر الدعمة”، وهو كاتب وباحث بلجيكي من أصل فلسطيني ومتخصص في مجال انخراط الجهاديين من أوروبا في صفوف داعش، وله كتاب مشهور في هذا المجال.
وإليك المقال كاملاً:
التحقيق العبثي مع أكاديمي بلجيكي مسلم يخدم أهداف “داعش”
دخل العالم وطيس معركة حامية ضد أعنف عدو تواجهه البشرية منذ أيام هتلر – هذا العدو ليس التغير المناخي الذي يتهدد حياتنا وكوكب الأرض، بل عصابة مارقة تدعى تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش).
غير أن الحرب على إرهاب “داعش” بطريقة السلطات الأمنية الأوروبية وقوانينها هي أشبه بصب الزيت على النار، فالأسلوب البوليسي المتبع في إيقاف المتهمين وإلقاء القبض عليهم وقمعهم لن يجدي نفعاً في توفير الحماية للقارة الأوروبية، بل على العكس سوف يوغر صدور مسلمي أوروبا على حكوماتهم ويدفعهم للانسياق العاطفي وراء قضية التنظيم الإسلامي المتطرف، بل حتى أنه سيضمن انخراط هؤلاء في صفوف تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) أكثر من نداءات “داعش” نفسها عبر قنواتها التجنيدية.
ليست تكهنات نظرية، بل واقع نشهده، وأحداث القصة التالية خير دليل. أبطال القصة رجال شرطة غافلون جاهلون عنصريون، بتصرفهم غير المبالي الأسبوع الماضي شجعوا “داعش” على “خطب ود” شاب بلجيكي لطالما عادى الإرهاب وكافحه في أوساط بروكسل أكثر من غيره في البلاد.
الكاتب والأكاديمي “منتصر الدعمة”، وهو مواطن بلجيكي من أصل فلسطيني، ومتخصص في المجال الذي يظن جميع رجال الشرطة الأوروبية أنه ميدانهم وتخصصهم: إرهابيو داعش الذين نشأوا ضمن حمى أوروبا وتبنوا الأفكار التطرفية داخلها.
يدير الكاتب مركزاً “للمتطرفين التائبين” الذين يودون العودة أدراجهم والتخلي عن الفكر المتطرف، حيث يوفر المركز الدعم النفسي والفكري والاستشاري لهؤلاء كي ينبذوا هوسهم بفكر داعش المتطرف.
بلجيكا أحوج ما تكون لخدمات هذا المركز خاصة أنها أكثر دولة أوروبية مصدرة لمقاتلي داعش إلى سوريا (350 مقاتلاً للنسمة الواحدة).
إضافة إلى عمله الميداني، فقد شارك الكاتب الدعمة في كتابة كتابٍ يشار إليه بالبنان حول “إرهاب داعش” بعنوان: “قافلة الجهاد: رحلة نحو جذور الكراهية The Jihad Caravan: A Journey to the Roots of Hatred.
ليس الكاتب مغموراً بل معروفٌ جداً في بلجيكا، فقد سبق لفريق تصوير تلفزيوني أن رافقه في عدة جولات في أرجاء بروكسل، كما أجرت معه الصحافة البلجيكية وصحيفة “واشنطن بوست” الأميركية شتى اللقاءات الصحفية.
والأسبوع الماضي كان عائداً إلى بيته بعد جلسة مع أعضاء برلمانيين بلجيكيين عندما استوقفته دورية شرطة بغتة. سلوك مشروع في أعين أشباه البرلماني البريطاني “هيلاري بين”، ومن هم على شاكلته، فهم يرون كل عربي مسلم مذنباً حتى يثبت العكس – أليس كل عربي مسلم مشروع انتحاري هذه الأيام؟
هكذا يريدنا “داعش” أن نفكر وهكذا يريدنا أن نكون.
يروي الدعمة أنه كان عائداً إلى بيته الكائن في “مولنبيك” (الحي الذي اشتهر في الآونة الأخيرة على أنه مرتع إرهاب داعش في بلجيكا) عندما استوقفته فجأة دورية شرطة عند أحد الحواجز. لم يرتبك، بل ظن الأمر طبيعياً خاصة أن جرح باريس لم يندمل بعد وأن بلجيكا عاشت حالة طوارئ لم تشهد لها مثيلاً من بعدها.
يتابع الدعمة “طلبت الشرطة مني أوراقي، فاستجبت وامتثلت. ثم سألوني كم لغة أجيد، فأجبتهم أني أجيد الهولندية والفرنسية والإنكليزية والعربية، فقال لي أحدهم “هنا في بلجيكا لا نريدك أن تتحدث العربية”. كانوا بمنتهى الفظاظة.
سألوني عما في سيارتي وفتشوها وعثروا على نسخ من كتابي قافلة الجهاد، فأتحفني أحدهم بقوله: “هنا في بلجيكا لا نسمح لك بحيازة كتاب كهذا في سيارتك – لا جهاد لدينا في بلجيكا.” ثم أمروني بالترجل من سيارتي ووضع يدي على سقفها، وطلبوا الكلمة المفتاحية لهاتفي لكني رفضت كشفها لهم، فما كان منهم إلا أن فتحوا الهاتف وأخذوا شريحة الـ SIM وخطوا عليها بضعة أرقام ثم أعادوها. نقبوا ونبشوا في أوراقي وألقوها في سيارتي ولم يأبهوا أن تبعثر بعضها في أرض الشارع”.
شعر الدعمة بالسخط وتقدم بشكوى إلى قسم الشرطة. “كنت لتوي أتحدث في البرلمان عن التطرف، وأدير مركزاً لمساعدة من يريد انتشال أنفسهم من فخ داعش ولي في هذا العمل عامان. إنني أكافح تطرف هؤلاء وأعيدهم إلى الحياة الطبيعية، لكن داعش تريد لما حدث معي أن يتكرر مع الجميع: تريد للشرطة أن تهدد المسلمين، لكن الشرطة إن انصاعت بهذا الشكل فستعيق وتخرب علينا جهودنا بإسدائها هذا الجميل لداعش”.
لجأت الشرطة إلى تبرير ما حدث قائلة إن سيارة الدعمة كان داخلها أشخاص يقومون بتصوير الشرطة ونقاطهم وحواجزهم (لعلها كاميرات الفرق التصويرية التلفزيونية التي تتبعه في عمله)، كما زعمت الشرطة أن الدعمة “حرض المارة ضد الشرطة” وهي جنحة في نظر القانون البلجيكي.
لكن الأحداث تلاحقت وتطور الأمور إلى الأسوأ، فما زاد الطين بلة كان تلقي الدعمة رسائل من “داعش” نفسها.
يقول الدعمة: “كانوا يسخرون مني، إذ كتبوا أن هذه عاقبة من يعادي داعش، وكتب لي أحدهم “ما الأمر؟ لديك مشاكل، أليس كذلك؟”، لقد سُرّت داعش كثيراً بما حدث معي، فهذا بالضبط ما يتمنون حدوثه مع كل مسلم. يريدون للشرطة أن تحارب المسلمين. يريد للحرب أن تستعر بين مسلمي أوروبا وباقي الناس.”
مفارقات واضحة الملامح لا تخفى على اللبيب قراءتها: كان الأجدر برجال الشرطة أن يقرؤوا كتب الدعمة لا إدانته بحيازتها في سيارته. كان عليهم أن يتعلموا منه لا أن يسيؤوا إليه. لكن المصيبة أن حالة الهلع والذعر إن سادت مجتمعاً وعشنا “حالة الطوارئ” يغيب المنطق ويتعطل العمل بالقوانين الطبيعية المرعية.
تساءلت عن مستقبل بريطانيا بينما كنت أتابع جدلنا البرلماني الكريه الأسبوع الماضي حول إقرار ضرب سوريا (والذي كان الهدف منه في الواقع ضرب كوربين لا ضرب داعش).
ترى هل تشهد لندن اعتداء يحاكي باريس -كما يروج زعماؤنا السياسيون – انتقاماً من دخولنا الحرب على داعش في سوريا؟ وترى إن صدقوا، فهل نشهد سن قوانين جديدة لتسهيل عمل السلطات الأمنية تخولهم من التنصت على الهواتف وتتبع الأثر الرقمي للمواطنين؟
هل لاحظتم كيف تغيرت لهجة ديفيد كاميرون عقب فوز مقترحه؟ تحول وانقلب من الإلحاح والاستعجال في مناقشة القرار لكي “نقطع رأس الأفعى” إلى نغمة جديدة مغايرة: الدعوة إلى التريث والتروي وعدم الاستعجال. بعد كل عجلته في إجراء التصويت وحزم المبادرة، انكفأ ليقول أن الحرب “تأخذ وقتاً”. أهذه هي قيمنا؟
حقاً رأينا كيف أننا دوماً نسيء إلى قيمنا بأفعالنا وأقوالنا كلما زعمنا أن هذه القيم مهددة بالخطر. في رأي الدعمة أن هذا بالضبط ما تسعى داعش إليه: هدم بنائنا بزعم أننا نحميه.
ولماذا نخاطر بكل هذا؟ من أجل السيد ديفيد كي يرسل “قلة” إلى معركة سوريا، ولكي يتبجح هيلاري بين أكثر بإنجازاته ضد “الفاشية”. أجل، وضحت الرسالة
huffpostarabi