الدروب الترابية المتعرجة تختصر المسافات بين مداخل البيوت، فقد كان لكل بيت مدخل واحد وهناك باب داخلي يؤدي إلى بطن البيت أو «الحوي» لخروج النساء إذا هم بدخول الدار غريب.
هذه المداخل تفسر سر تجوال أهل البلدة ورفقتهم الدائمة لبعضهم البعض، فالطريق الرئيسةلا تستلزم جهدا، والطرق المختصرة تؤدي كلها إلى لقاء.
هذا الإحساس أتاني من أن هذه الدروب مطروقة وأن البيوت رغم تهدمها إلا أن فيها بعض حياة.
فما زالت الأرفف الطينية متماسكة وما زالت آثار نيران الطبخ في الزوايا وآثار إعداد القهوة في المجلس أو المشب الذي يتم فيه استقبال الضيوف تاركة بعضا من طقوس ضيافة على الأسقف المتينة.
هذا ليس مشهدا فانتازيا ولا سينمائيا أبدعه خيال فريق كامل من ذاكرة شعبية، وإنما بعض يوم قضيته فيما يوصف بأرض العمارة الطينية.
وهذه الأرض ليست سوى منطقة القصيم التي تستضيف هذه الأيام ملتقى التراث العمراني الوطني الخامس.
وبالرغم من العمران الحديث المتسارعة وتيرته بالمنطقة، وبالرغم كذلك من أن هذه المشاهد لا تستهوي كثيرا من السكان سوى بعض الذواقة والمهتمين، إلا أنها تسترعي كثيرا من اهتمامنا بوصفنا ضيوفا، لنا عين أخرى، منقبة ومستكشفة وروح سائحة ممتثلة لقوله تعالى «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير» (العنكبوت: 20).
عدد من المناطق كبلدة الطرفية تجبرك على ألا تراها مجرد أكوام حجر وتراب وإنما سيرة نابضة لمكان يستطيع أن تسمع من بين جدرانه المتهدمة أنفاسا مشحونة بالمحبة والألفة.
ويحيرك ألا تحس فيها جمودا وأشجار (الطرفة) بأوراقها المخضرة على الدوام تنشد بقايا الحياة السالفة.
وتثير في نفسك ألف سؤال، منعرجاتها التي ما زالت تحفظ خطوط الأقدام وانغراسها في طين سنة «الغرقة».
تابعنا مستمسكين بما تبقى من جدران في صعود ونزول على الحجارة المكومة.
لهاث الأنفاس يكاد يخترق صمت المكان فبعد عشرات السنين تصر رغبة الأقدام على الانغراس في هشاشة أرض البلدة.
ولكن الرغبة في اختزان لحظات من قصص حية لبلدة شبه مهجورة، قد فاقت كل الخوف من حكاية الأرض التي احتوت سوقها ومسجدها بداخلها نتيجة انفتاح بئر.
لبيوت الطين شذى وعطر قد لا يحسه إلا من عاش في هذه البيوت جزءا من عمره، فهي تشمخ عادة بباب مصنوع من الخشب.
وعلى جنباته مناور عالية تناغي شمس الصباح ونسيم الليل العليل، ويدخل منها ضوء القمر في لياليه البيض ومنتصف الليالي الأخرى مؤذنا ببزوغ الفجر.
وبيوت الطين هي في الواقع جزء من التراث التكويني للإنسان.
فبرمزيتها الطبيعية إلى خلق سيدنا آدم عليه السلام من طين جاء الانتماء الأول والإحساس بالألفة.
وبرمزيتها التاريخية فهي عنوان للأصالة ورمز من رموز حضارة الإنسان واستعداده الفطري لأن يكون ابن بيئته يتحدى ظروف الطبيعة ويستفيد من مكوناتها في متناول يده، فيطوع الطين والحجارة وينجر جذوع الأشجار ويشذب جريد النخيل لتكون كلها في خدمته وطوع بنانه.
للمكان انسجام تام بين الطين والشجر، ومن جغرافية الطرفية وامتداداتها البيئية تتوالد تفاصيل مدهشة، فقبل إنسان المنطقة كانت هذه الشجرة، شجرة الطرفاء المذكورة في كتاب ابن منظور «لسان العرب»، وهي عين ما قالت فيها الشاعرة وجيهة بنت أوس الضبية: وهل لي، إن أحببت أرض عشيرتيوأحببت طرفاء القصيبة، من ذنب؟تابعنا السير في بهجة غامرة، فما زلنا في حضن البلدة من دار إلى دار.
وصف البلدة ذو شجون وكأن مرافقنا يحكي عن أناس لم يستفيقوا من نومتهم بعد.
أكثر ما يحفز في رؤية بقايا هذه البيوت الطينية هو الرغبة في إعادة الإحساس بجمال ما مضى، وكأن رؤية الأتربة والطين الصلد وعروق السقف الصامدة المرصوصة بعناية تقول: أن احكوني.