عمر الجزلي يكرم عمر الجزلي.. هذا ما حدث، بدليل (ملف الخدمة) الطويلة الممتازة، تعيدها للذاكرة شاشة العرض في خضم مشهد حاشد تتقدمهم شخصيات بألوان الطيف، بعضهم شكلوا جلوساً أنيقاً وأكثرهم شكلت صورهم المألوفة لوحة شرف تضم (أسماء في حياتنا) فرقتهم السياسة والأزمنة، وما استطاع جمعهم على صعيد واحد سوى حب الوطن، وهذا الإعلامي المحتفى به على ذات طريقته الملحاحة في التعريف برموز بلده.. فكأنه هو القائم بالتكريم.
حضور بهي ورسائل بليغة، وحديث عذب لحناجر ندية مألوفة تعزف في مقام (المذيع المذيع)، الذي يتألق يتفانى فيضرب المثل.. ثم في الأمر(أروقة) سخية بادرت كعهدها فأحسنت بهذا الشكل والمحتوى لتزدان أمسية الاثنين خاتمة نوفمبر وفاتحة عهد جديد للإعلاميين بقاعة الصداقة، غير ذاك اللهث وراء تغطيات يريدونها كل مرة غير مسبوقة.. غير المسبوق الآن هو تكريم (أحدهم) بهذا الشكل.. بهذا الحضور الإعلامي الصاخب يطل عليه كالمفجأة السارة دبلوماسي موقر، سفير المملكة العربية السعودية بأريحية معهودة فيه وفي بلاده.
يبدو أن لغة(غير مسبوق) هي الطابع الغالب.. فمن غير المسبوق أن يصبح (إعلامي واحد) موضوعاً للقاعة وأن تتقاطر الهدايا من كل لون، وأن يتصدر الحضور النائب الأول السابق دليلاً لاهتمامه بالإعلام في بلده- يقرأ، يستمع ويشاهد، فيوعز بوضع المتميزين في الوضع الذي هم أهل له – تماماً.. ثم يتابع ما وجه به وإن طال الزمن وفارق الموقع، فيحضر بنفسه ليشارك في مهرجان الاحتفاء بالتميز الذي كان يرعاه فكرة.. كان حضور الأستاذ علي عثمان موحياً مفرحاً يلاحقه توثيق على الشاشة لأصل صلته بفكرة الاحتفاء بأهل التميز.
من غير المسبوق أن تهجر شخصية فذة مهجرها لتلحق بتكريم قامة إعلامية ليتباهى بكفاءتها بمقاييس عالمية هو ممن أرسوا دعائمها بحكم موقعه الدولي الرفيع (المدير العام لمنظمة الملكية الفكرية جنيف، لدورتين بالانتخاب)- السوداني الدكتور كامل ادريس.. كان بعيداً فإعادته المناسبة ليفاجىء الحضور مشاركاً وأسرته في تكريم المذيع الدكتور الإنسان، نقداً وذهباً، قائلاً: (إن الجزلي رمز من رموز الأمة، كنز من الكنوز القومية النادرة، وهرم من الاهرامات الشامخة يباهي به الأمم، ما رأيت أشجع منه حضوراً وأذكى بياناً وأطيب معشراً وأكثر وفاء لدينه وأهله ووطنه)- هكذا(تحديداً) تحدث الدكتور كامل ادريس في كلمة رصينة تعززها جائزة ذهبية يجعلها راتبة باسمه عبر مشروعات (أروقة) القادمة، فترقبوها.
أستاذنا بروفيسور علي شمو اختار أن تأتي كلمته مكتوبة، فالمقام متصل بالتوثيق وبرسالة المؤسستين الإعلاميتين الأعرق بشهادته وبذله.. كلمته كنبرته نادرة، بليغة أخاذة حافظة لعهود الإعلاميين وتفانيهم ليصف المحتفى به بأنه (طموح جداً) شهرته (الحضور الطاغي).. ثم يعلن دعمه لمبادرة تحويل حصاد البرنامج الى توثيق متداول(يمكن الرجوع إليه).
من غير المسبوق قطعاً أن يستمر برنامج تلفزيوني هكذا متصلاً لاربعين عاماً (1975 – 2015 ) يقدم للناس 2500 حلقة توثيقية اسبوعية بزمن ساعة كاملة، يصطفي ضيوفه بتجرد من بين رموز المجتمع والدولة، بمهنية عالية ووطنية غيورة وبرصيد من الصبر لا يضاهي، فضلاً عن وفائه لعلاقاته بمن حوله.. هكذا عرفته عن قرب، وبين ردهات التلفزيون وغياهب الأزمنة وتضاريس بيئة العمل، عيننا على منهجه في العمل، مستغرقاً وحده ومع فريقه الرائع الموعود دائماً بالمتاعب، متع الله كمال منزول بالصحة والعافية.. ظروف لا تحتمل، يصبرون عليها وعليه ومنهم من يسافر معه لأقاصي العالم- فالنتيجة هكذا، جديرة بالاحتفاء.
(عمر) واحد من قائمة مذيعين أفلحوا في اختيار مجالات لعمل إعلامي يبقيهم في الذاكرة وإن تقلبت الأيام وطال النسيان أفذاذاً..اختار مجال التوثيق لرمز المجتمع والدولة- فكرة لا تنفد ولا تبلى.. تفرد بها واحتمل وزرع نفسه في خضم بيئة صحوة لشخصيات متفق على فضلها وتميزها واستحقاقها لكلمة وفاء، فكانوا له أوفياء..احتفظوا به اسماً في حياتهم، يتألق مع الزمن في سجل الذكريات الباقية لأهل السودان.. كانت ليلة جامعة، مفعمة بالمشاعر، تتوج خمسين عاماً من العطاء الإعلامي التوثيقي المميز- غير المسبوق.
والبداية أيضاً غير مسبوقة- كما يقول الراوي- (اذهب فأنت مذيع) قالها له (صالحين) خارجاً من غرفة (المعاينة) المهيبة ليشهراسم عمر(مذيعاً) فيبقى مذيعاً الى يومنا هذا- لغة ونبرة ولياقة.. وحين أحرز الدكتوراة اختارته (الأهلية) ليدرس طلابها فاختار له من يعرف قدره وقدراته، بروفيسور صلاح الدين الفاضل، العميد، مادة(لياقة المذيع).. مرت السنوات وعمر هو عمر، منتهى اللياقة (ما شاء الله تبارك الله).. اهتمامه بل هاجسه مقومات المذيع شكلاً وموضوعاً ولغة، مواكبة وتأثيراً..إن دراسات الإعلام وعلوم الاتصال تجمع على أن المحك الآن هو (التأثير)- هل ما يذاع له أثر يذكر، ينفع الناس؟.. لقد أعطى عمر الاجابة.
هناك أثر لا ريب لمنهجية عمر في الاداء(حضوراً وحرصاً، مادة وتجويداً) بدليل هذا الحضور وفيهم (باذرعة) ذاك و.. و..وأعيان بلد ازدانت بهم الصفوف الخلفية، ثم بدليل هذه الإشادة وتلك الهدايا،. وهؤلاء الذين وثق لحياتهم الحافلة وعبرهم ضمن التوثيق لحياته محل الاحتفاء.. كان الجزلي في صراع دائم يريد للإعلاميين عيدا، فها قد هلَّ بك العيد.. مبروك.. وشكراً لأروقة ولجنة الاحتفال وللأستاذ(الوزير) السموأل خلف الله القريش، متعهد الأعياد.
د. عبد السلام محمد خير
صحيفة آخر لحظة