العلاقات البينية 7/1 فقه الائتلاف وأدب الاختلاف: خطاب الإعذار

يجب أن يؤسس الخطاب الإسلامي المعاصر في حياة المسلمين اليومية فقه الائتلاف الذي يعمل على تعميق المشترك، وتعزيز الجوامع، وتوسيع قاعدة المتفق عليه.. تحقيقاً لموجبات الوحدة، والتضامن الاجتماعي، والوئام المدني، والسلم الأهلي.
كما أن عملية أن يكرس أدب الاختلاف .. انطلاقاً من مبدأ إقرار حق كل صاحب مذهب أو رأي معتبر في تبنيه والدعوة إليه – وفق الأصول العلمية والعملية- مع مراعاة أن (الحق يقبل من كل من تكلم به) (كما قال ابن تيمية رحمه الله، ومع ملاحظة أن البصير الصادق يضرب في كل غنيمة بسهم، ويعاشر كل طائفة على أحسن ما معها) كما قال ابن القيم رحمه الله) ..مع رعاية رحم الإخوة، وحفظ الحرمات وعدم التشنيع على المخالف والسعي بالنجوى والإرجاف.
ويبقى الأمر في هذا على ما أخبر به النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم – من ثبوت ثوابين للمجتهد المصيب وثواب كامل للمجتهد المخطئ في الحديث (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) وفي هذا يوجز ابن تيمية – رحمه الله : ” لا يحل التشنيع والإرجاف بسبب مسائل تحتمل وجوها في الفهم ومتسعاً من الرأي .. فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ، فإن الله يغفر خطأه كائناً ما كان … سواء كان في المسائل النظرية العلمية، ام المسائل الفروعية العملية. هذا الذي عليه أصحاب النبي وجماهير أمة الإسلام”.
7/2 وحي الوجدان .. ووازع السلطان: خطاب القيم
لابد أن ينزع الخطاب الإسلامي المعاصر إلى تغلب قيمة الضمير على حكم القانون، وإلى تقديم ضوابط المجتمع على قبضة الدولة، وإلى الاهتمام بالإصلاح قبل الردع والعقاب، وإلى التأليف قبل التعريف.
لقد خلق الله سبحانه وتعالى النفس البشرية وهي تحمل نوازع الخير والشر: “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا” (سورة الشمس، الآيات 6-10) وجعل سبحانه الفلاح والخيبة مرهونة بسعي الإنسان لتزكية نفسه أو الانحطاط بها، والإنسان منذ بدء الخليقة خير بين طريقين طريق الخير أم طريق الشر، ومن ذلك تبدأ رحلة المعاناة التي يعيشها الإنسان بين نوازع الخير والشر في نفسه.
وإذا أصبح الإنسان رقيباً على نفسه كان أبعد عن الحرام شرعاً، والممنوع قانوناً، والمعيب عرفاً. انه لا يغدو ملاكاً معصوماً… ولكنه يصير إنساناً ربانياً متحققاً: يخطئ .. لكنه لا يصر، يتعثر.. لكنه ينهض، يذنب .. لكنه يستغفر!
7/3 النقد والتقويم .. لا الانتقاص والتخوين: خطاب المراجعة
هذا باب يجب على الخطاب الإسلامي أن يتبناه بقوة لعظم دوره..
والأصل فيه إنزال الناس منازلهم دون بخس او شطط، وتقديرهم بما يستحقون دون إفراط ولا تفريط.. بناء على قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) سورة المائدة الآية 8 مع التنبه إلى أن ليس مما يحسن أن يشغل المرء نفسه بمراقبة الناس ليحكم عليهم سلباً أو إيجاباً، فمما روي من كتب الأنبياء السابقين – عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام – ان ” على العاقل أن يكون بصيراً بزمانه ، مقبلاً على شانه، حافظا للسانه. ومن حسب كلامه من عمله، قل كلامه إلا فيما يعنيه!”
وإذا لم يكن بد من انتقاد شخص او جماعة او فكرة، فليكن بالإنصاف والاعتدال، ومعرفة الرجال والأفكار بالحق – لا العكس – والانطلاق من أنه لا معصوم إلا من عصم الله – تبارك وتعالى.
ومع أن عندنا – نحن المسلمين – منهجاً إلهياً، وهدياً نبوياً، وسيرة تاريخية طويلة توضح لنا كيف نتعرف إلى الخطأ في أنفسنا أو في غيرنا، وكيف نستطيع تصحيح الخطأ؟ سواء أكان خطأنا نحن ام خطأ الاخرين.. فإن من المؤسف جداً أن هذا المنهج القويم أفاد منه الغرب – في الناحية الدنيوية- أكثر مما أفدنا نحنّ فأرسوا قواعد النقد بين الحاكم والمحكوم، ووضعوا أسسه وضوابطه (سواء في المجال الإعلامي، او الاقتصادي، او السياسي، وغيرها من المجالات) .. بحيث أصبح كل فرد منهم يعرف : كيف ينتقد؟ وكيف يوجه؟ وكيف يشارك برأيه في كل قضية صغرت أم كبرت دقت أم عظمت؟ فأصبح كل إنسان منهم يحث على أن يشارك مشاركة فاعلة في إدارة دفة المجتمع، وفي تصحيح الأخطاء، وفي توجيه الناس. أما المسلمون، فإن كثيرا من سلوك المنتسبين الى الإسلام أقرب ما يكن إلى سلوك من يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة!
7/4 التواصل.. لا التقاطع ، التكامل .. لا الذوبان: خطاب التعارف
يجب أن يؤسس ويعمق الخطاب الاسلامي العالمي لخطاب ” التعارف الإنساني” الذي مبدؤه: الإيقان بأن الله – تباركت أسماؤه – خلق كونه متنوعاً، وفطر خلقه على الاختلاف الحميد أصله:” وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ .. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ” (ورة هود الآيتان 118،119) وليس هذا التنوع مقصورًا فيما بين الدوائر الحضارية، بل إن من القسط الإقرار بأن الدائرة الحضارية الواحدة تنطوي على قدر غير قليل من التنوع والتعدد. ولذا .. فإن أية محاولة لتنميط الكيانات الحضارية ضمن قوالب أحادية جامدة، وتجاهل ما تضم الحضارة من تفاعلات متعددة.. هي نوع من التعسف ، الذي يقود حتماً الى مغالطات في التصور، وتجاوزات فيما يتفرع عن هذا التصور المغلوط من أحكام وقرارات وسياسات.
ومن شأن هذا الاختلاف المتنوع أن يعاظم من ضرورة توثيق عرى التعارف والتكامل بين خلق الله جميعا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (سورة الحجرات ، الآية 13) وأحد أهم الاشتراطات التي ينبغي تحقيقها في واقع التفاعل المتبادل بين الحضارات: السعي الى تحقيق ” التكافؤ” و” الندية” (غير المصادمة ولا المهيمنة) بين الأطراف الحضارية الفاعلة.
ويعني هذا التكافؤ وهذه الندية ان يسود الاعتقاد بأن هذه الاطراف كافة شريكة في الإرث الانساني العام، وأن بوسعها جميعا المساهمة بجدارة في صنع الحاضر والمستقبل، وأن يتم التفاعل بمقتضى هذه الحقيقة – دون الغاء او إقصاء او تهميش – باعتبارها إثراء للتجربة الانسانية المشتركة.
فالتواصل بين خلق الله كافة واجب.. لكن دون استعلاء طرف وذوبان آخر.
واعتزاز كل بهويته مطلوب.. لكن جون تقوقع ولا انغلاق. والتسامح بين الشعوب ، فيما وقع خلال التاريخ من مثالب وأخطاء، مستحب .. لكن دون تهاون في الحقوق ونسيان للدروس الإيجابية!

Exit mobile version