العلاقات الدولية أخطر من أن تُترك للإعلام، خصوصا إذا كان كالإعلام المصرى، بينما يخاطب الداخل بهستيريا مبالغ فيها، يعتقد أن زعيقه وشططه لا يراه أحد خارج حدود الجمهور المصرى الذى بات “كتالوجه” معروفا لهؤلاء الإعلاميين، باعتباره جمهورا ضعيف الذاكرة، وقابلا للتسطيح.
حدث هذا حين أُذيعت مشاورات التعامل مع سد النهضة فى قصر مرسى الرئاسى، وكأن الإثيوبيين لا يعرفون اللغة العربية باللهجة المصرية، كما حدث قبل ذلك فى مواجهة الجزائر الكروية التى امتدت للسخرية من كل شىء حتى نضال الأجداد الجزائريين، واستمرت بنماذج كثيرة، وصلت إلى أن حاولت مذيعة أن تدير مفاوضات على الهواء مع السفير الإثيوبي، وأغلقت فى وجهه الخط، لأنه قال لها :”أنت لا تفهمين فى السدود”.
وحين يقول الرئيس السوداني عمر البشير إن الإعلام المصرى يتعمد “إحراجه” أمام شعبه، ويضطره لتبنى سياسات، على خلفية هذا الأداء الإعلامى يمكن أن تفهم حجم الكارثة، إن كانت النسبة الأكبر من الخلافات الظاهرة بين مصر والسودان بدأت فى الإعلام وتطورت بسبب الإعلام.
المراهقة الإعلامية فى التعرض للعلاقات المصرية السودانية، ربما تساعدنا على أن نربح “حلايب” ونحسم الجدل حولها نهائيا، لكنها قد تجعلنا نخسر السودان، وبحسابات المكسب والخسارة المجردة، فالسودان أهم بكثير.
لست من المغرمين بالبشير ونظامه، ولدى من الكتابات النقدية لمشروعه الكثير جدا منشورا وموثقا، فما حدث داخل السودان طوال عقود حكمه الكثير الذى يستحق النقد، ولست من دعاة التفريط فى حلايب، التى يمكن إدارتها بمرونة تجعلها مركز التقاء حر وحركة مفتوحة بين الجنوب والشمال، لكن إدارة المسألة بأسلوب المكايدات الإعلامية، لا يترك أمام الطرف الآخر إلا البحث عن مكايدات مضادة لإرضاء جمهوره الغاضب.
نظام البشير براجماتى، ينظر لمصالحه، وفكرة ارتباطه التنظيمى بمشروع الإخوان التى يرددها الإعلام المصرى كمسلمة يقينية، ينفيها استقبال الخرطوم للسيسى رئيسا وزيارته رئيسا، بينما كل الإخوان في العالم يعتبرونه زعيم انقلاب.
ولعلك تذكر أداء الإعلام المصرى فى تغطيته للقاء الرئيسين السيسى والبشير فى القاهرة فى أكتوبر من العام الماضى، حين ترك كل مغزى فى الزيارة وكل نتيجة لها وتمسك بصورة خريطة القطر المصرى التى كان الرئيسان يجلسان أمامها متضمنة وجود حلايب وشلاتين فى داخل الحدود المصرية.
وبأسلوب جماهير كرة القدم التى تهلل لمراوغة فى منتصف الملعب لا تضيف كثيرا لنتيجة المباراة، جرى الاحتفاء بالصورة، وكأنها تمثل اعترافا رسميا من البشير بتبعية حلايب لمصر.
فى الوقت نفسه يواجه السودان هجوما كاسحا بسبب بعض مواقفه من قضية سد النهضة، وكأن حكومته ليس من حقها اتخاذ مواقف تعبر عن مصالحها ومصالح بلادها ومطلوب منها أن تربط سياساتها بسياسات الشمال كتابع لمتبوع، وهذا أيضا أحد الأخطاء المصرية التاريخية فى التعامل مع السودان، يضيف لها الإعلام فى مصر رونقا خاصا باستفزازه وجهله واستكباره، ويحاول ربط أى قرار سوداني غير منسجم مع القرار المصرى بمؤامرة كبرى تنفذها مخابرات دول وقوى إقليمية والسودان ليس إلا مخلبا يتقاضى أجر الخربشة.
هل هذا هو المهم عن السودان حاليا؟
لماذا تشغلنا قضية حلايب بهذا التركيز وهذه المساحة وهذه التفانين المصرية، إذا كانت بالفعل داخل حدودنا وتحت سيادتنا، ولا يشغلنا السودان كله ومستقبله ووجوده إلى جانبنا؟!
العقل المصرى الرسمى والإعلامي الذى يختزل التحديات مع السودان فى حلايب من جانب وسد النهضة من جانب آخر، هو عقل يغيب عنه الكثير من مفردات الواقع السوداني، ومن الأخطار المحتملة حوله، وهى أخطار تستدعى قراءة أكثر عمقا، وتحركا أكثر حيوية، وإعلاما أكثر اتزانا.
بعد 26 عاما قضاها البشير فى السلطة، ينشغل السودانيون بسؤال: ماذا بعد البشير؟ وهو ليس مجرد سؤال حول مصير رئيس، لكنه سؤال مستقبل السودان، الذى فشلت رياح الربيع العربى فى انتزاع أوتاد نظامه، بينما يبدو البشير وحده الممسك بتناقضاته الداخلية، وسط مؤشرات كثيرة تنذر باحتمال لحاق السودان بمرحلة التنازع العسكرى على خطى الوضع فى جارته ليبيا، بمجرد انطلاق شرارة لهذا التنازع مع وجود قوى سياسية متباينة مسلحة بالفعل وتمارس مشاريع حرب فى عدة مناطق، بينما مصر بعيدة تماما عن كل جهود التهدئة والتفاوض بين الفرقاء التى تتم برعايات إفريقية.
قبل أيام من الاستفتاء على انفصال جنوب السودان قال “إدوار لينو” القيادى فى الحركة الشعبية لتحرير السودان الحاكمة حاليا فى دولة الجنوب، بأن “السودان مثل طبق الصيني الذى سقط من يد البشير ليصطدم بالواقع ويتفتت”.
هذا التفتت لم يكن القصد منه مجرد انفصال الجنوب، لكن ما بقى من خريطة السودان يصفه دون عناء. فالتوتر الذى يتمدد شرقا وجنوبا، شرارته تتساقط فى النيل الأزرق وجنوب كردفان وجبال النوبة، والصراع الشمالى الجنوبى على “أبيى”، والأزمة الممتدة بلا حل ناجز، والمحملة بأثقال ضحايا كثر فى دارفور، إلى جانب التنازع السياسى فى الخرطوم بين النخبة السياسية والنظام، ووضع اقتصادى صعب وضاغط.
بهذه العمومية دون غوص فى تفاصيل كثيرة تبدو هذه خريطة التوتر فى السودان مع فشل نظام البشير فى إدارة التنوع الثقافى والقبلى والعرقى، أضف إليها استقرار النظام الإسلامى الطابع لمدة 26 عاما وخلقه أجيالا متباينة من الإسلاميين بتنوعهم “الديمقراطيون منهم والأصوليون والسلفيون والجهاديون”، بما يعنى أن أى فوضى قادمة ستصل النشاط المتطرف فى ليبيا بنشاط متطرف فى السودان، وتكون مصر فى قلب الكماشة الجهادية، وإذا أضفت لذلك الوضع فى سيناء، تصبح جميع الجبهات الحدودية المصرية مفتوحة.
استقرار السودان وحلحلته أزماته السياسية والثقافية لا بد أن يكون هدفا استراتيجيا مصريا، ووجود البشير ونظامه ودولته ضمانة مؤقتة لهذا الاستقرار مع نوازعه البراجماتية التى يضع فيها مصالح نظامه قبل مصالح أى تنظيم، لكن رعاية مصر لعملية سياسية دون تدخل أو محاباة لطرف على حساب آخر، هو نوع من الحركة المسبقة لاحتواء الكارثة قبل وقوعها.
والأهم من ذلك أن تربح الشعب السوداني المحتقن تجاهك، لأسباب متنوعة يغذيها الأداء الإعلامى، والسياسات غير الناضجة التى لم تستطع أن تبنى استراتيجية واضحة بخصوص ما نريده من السودان، وهل نريده شريكا أم تابعا؟
مستقبل السودان أهم من مستقبل حلايب، والسؤال عما نريده من السودان لا بد أن يسبقه سؤال حول كيف نحمى السودان، ونساعد أطرافه المختلفة على حماية وحدته وإدارة تنوعه وتضميد جراحه بانخراط حقيقى وكفء.
هذا الطبق الصيني لا يجب أن يسقط، وإذا سقط مصطدما بواقعه الصعب فلن نأمن من شظاياه.
أحمد الصاوي
صحيفة التحرير المصرية