مآسي السوق العربي..!!

ونحن نتقلب بين صور البؤس في السوق العربي، مررنا بتجمعات العاطلين عن العمل وهم يحتسون الشاي في مجالس ستات الشاي العشوائية.
وقلنا إن اتساع دائرة العطالة روجت لقهاوي النساء في الهواء الطلق.. وقلنا إن انهيار البنية التحتية والخدمة المدنية وثقافة الإنسان فتحت الباب واسعاً لمجتمع القمامة حتى أصبح الإنسان نفسه مستهلكاً للقمامة!!
هنا نواصل التجوال ونبحث عن الفئات الضعيفة من المعاقين، ونقرأ كيف أنهم قرروا أن يأخذوا حقهم بالقوة في تجمعات السوق العربي..

في قلب السوق العربي، في الشوارع المحصورة بين المسجد الكبير شمالاً ومسجد الشيخ مصطفى جنوباً.. وشارع القصر شرقاً.. وشارع عبد المنعم غرباً.. نجد مجموعة من المعوقين سيطرت على هذه البقعة. ينتشرون بين الجموع المكتظة والباعة، تعرفهم بسيقانهم الحديدية، يأمرون الباعة الفراشة وينهون بقسمات صارمة، قلما تجدهم ضاحكين وإذا صادفت منهم من يضحك لن يخطئوك ضحكات المزاج الحزين المجلجلة دائماً. يجلسون في المناطق العالية لتحذير الفرَّاشة من (الكشة) القادمة، أو يقومون بالتوسط بين أفراد الكشة والفراشة بدفع أتاوات ورشاوي، أو دغدغة مشاعر العساكر بمصطلحات مثل (يا دفعة يا فردة)، ولا سيما الشرطي الجديد الذي لا يعرفونه.
هؤلاء هم الأفراد العاديين، أما الأغنياء منهم فيشاركون ببضائع يوزعوها على الفراشة، وهؤلاء يخدمونهم كموزعين.. لا أحد يستطيع أن يدخل هذه الأسواق إلا بإذنهم، ولا يستطيع أن يعمل إلا تحت حمايتهم، وهناك من السادات من يؤجر أماكن أمام دكاكين لا يستطيع أصحابها أن ينبثوا ببنت شفة.. إذا اشتد ضغط العساكر عليهم يستطيعون مواجهتهم وهم في الأصل (مرافيد) خدمة عسكرية، لم تعد القنابل المسيلة للدموع ترهبهم ولا حتى الطلقات الحية التي تطلق في الهواء.

واضح أن الشرطة في حيرة من أمرهم. مرات تغض الطرف عنهم وأخرى تواجههم، أما المجتمع السوداني الذي يتفرج عليهم صباح مساء في قلب الخرطوم لا يملك حلاً، كما هو دأبه في كل الأمور.. والضمير الحي -إن وجد- لا يملك إجابة واضحة للسؤال: أليس من حق هؤلاء الفتية أن يعيشوا وهم الذين قطعت أرجلهم وأيديهم بسبب رصاصة في معركة أو لغم في الطريق وهم يؤدون واجبهم؟! وما قيمة التعويضات التي منحت لهم مقابل أطرافهم المقطوعة؟ !
إذا كان المجتمع عاجزاً عن تأمين حياة كريمة لهؤلاء المعاقين، يصبح من حقهم أن يأخذوا حقهم بالقوة!!
هكذا ينتج التهميش والتجاهل قنابل موقوتة في قلب السودان، ويكتسب العنف والفوضى مبرراً منطقياً أو بعداً أخلاقياً.
ولا يجب أن يلام هؤلاء، فقد أفرزتهم المعاناة أو التجمعات المهملة للشماسة والشحاذين والمجذومين التي ظلت أمام أعين الناس حول المسجد الكبير عشرات السنين.

طفـــــل الورنيــش:
حاولت أن ألتقي بنموذج آخر من المعاقين الذين يملأون الساحة في مواقف العربات وحواري السوق الخلفية.. على عكس التوقع وجدت هؤلاء أكثر جرأة على التحدث عن خصوصياتهم أكثر من المثقفين من ذوي الحاجات الخاصة، وربما كانت الفئة الأخيرة من ضحايا التربية الأسرية الفجة التي تعتمد على التعاطف المفرط.. وربما كان هذا هو سبب الهروب والمراوغة رغم إمكاناتهم على الإفادة الشفهية والمكتوبة.

وجدت صبياً يبدو عليه أنه خرج لتوه من طفولة شقية، رغم قساوة البيئة التي أفرزته إلا أنه يوحي إليك بتلقائيته أنه يحيا حياة طبيعية. يعمل وقد فرش أمامه أدوات (الورنيش) التي يستعين بها في عملية المسح والتلميع وحياكة الأحذية. عرفته بسيقانه الحديدية التي تركها متكئة على الحائط.. بعد أن اطمئن إليّ كزبون ينتظر دوره، سألته: عن موطنه وأسباب الإعاقة، قال وعلامات صحة نفسية تلوح في نبراته: إن ساقيه قطعتا بانفجار لغم في منطقة كادوقلي (جنوب كردفان).. صغر سنه جعلني أن لا أساله إن كان يعمل في الجيش أو التمرد، ولكنه لم ينتظرني كمن كان يقرأ أفكاري، قال إنه كان في طفولته يلعب فوق إحدى الحقول العشوائية للألغام، وهناك انفجر تحته لغم!!

سألته عن أية إعانة حكومية يتلقاها. نفي ذلك،وحكي وهو منهمك في عمله أنه ذهب مرة إلى مكتب الزكاة، ووجدهم في ونسة وضحك، ولكن عندما دخل عليهم عبسوا في وجهه وردوه، وأكد أنه لم يكن يريد أكثر من (عشرين جنيهاً) يبدأ به عمله!! ونفى أيضاً إن كان يعرف شيئاً عن الجمعيات والمنظمات التي تتحدث باسم المعاقين.. تعمدت أن لا أسأله عن مصدر هذه السيقان الحديدية، لأنها لا تكفي حتى ولو جاءت من إعانة حكومية وهو أمر مشكوك فيه, والمظالم مؤكدة طبقاً لوقائع الحال.

– طيب إنت ما عارف إنو في قوانين بتحميك؟!!
توقف عن العمل ونظر إليّ بعينين لامعتين.. وقال ما معناه لو تركوني على حالي دون مطاردة ولا كشة سيكون حسناً!!
واضح أنه لا يعرف من القانون إلا الكشة والبوليس. شعرت أنني لو حاولت أن اشرح له شيئاً عن القوانين لن أكون منطقياً، فلا مفهوم آخر للقانون في فهمه سوى العقاب، لهذا تركته على حاله، وقد كان مبعث الراحة وسط هذا الوجوم أنه أخذ طريقه دون أن يلوي على شيء، وهذا ضرب من التفوق على طريقة التكيف والتعويض.
حاولت أن أعرف شيئاً عن مشاريعه المستقبلية، ولم يكن أمامي سوى السؤال عن الزواج!! قال بنات أعمامي صغيرات ونحن لا نتزوج (من برة): قلت في نفسي هذا أيضاً قمة الاعتداد بالنفس!
تركته وأنا على يقين من أنه لم يترك لشروط الأسوياء شيئاً: فقد حقق ذاته، قاوم ضغوطه، تكيف مع أزماته: تلقائي، يعمل بكفاءة، ربما لو أخذنا أقرب المارة من أسوياء الجسد وسألناه عن حاله، لما وجدناه بهذه القوة النفسية.. كم من الأسوياء في الطرقات يلعنون أقدارهم وزمانهم دون أن يغيروا من أمر زمانهم شيئاً!

راي : فكري ابو القاسم
صحيفة آخر لحظة

Exit mobile version