لا لاستفزاز الأغلبية (2)
نعم، غالبية المواطنين في الدول الفقيرة مستفَزة (بفتح الفاء)، أي تتعرض للاستفزاز بسبب سلوكيات الأغنياء، وأكرر أنه عندما يكون هاجس الأغلبية هو إسكات عويل البطن بأي شيء غير سام، ودرء المطر والبرد والحر بقطَع الكرتون والصفيح، فإنّ الحديث عن تخفيض الجمارك على سيارات الصالون استفزاز لتلك الأغلبية.
وعندما تناضل أنت لمنع شركة الكهرباء من حرمانك من التيار باستقطاع قيمة فاتورة الكهرباء من لحم عيالك، وترى جارك ينير سور بيته بمئات المصابيح وكأنه يقيم حفل زفاف «يوميًا»، فإنك قد تتحول إلى حاقد وحاسد. والتاريخ يقول: إن ثورات الفقراء جاءت نتيجة الفجوة الشاسعة بين الأغلبية المعدمة والأقلية المترفة.
تقليب المواجع هذا سببه خبر قرأه معظمكم قبل أيام عن فندق فورسيزونز في إندونيسيا، الذي طرح سندويتش برجر من اللحم البقري بسعر مائة وأحد عشر دولارًا (للسندويتش الواحد!!!!!!)، أكرر 111 دولارا لسندويتش بيرغر، يعني سندويتش واحد قيمته أعلى من قيمة «موظف» جامعي في إندونيسيا، حيث متوسط الأجور لا يزيد على خمسين دولارًا في الشهر، وحيث يعيش 300 مليون مواطن تحت خط الفقر! ثم تأتي إدارة غبية لفندق مشهور وتتبجح بأنها صاحبة أغلى سندويتش في العالم. ثم شوف الاستعباط: لماذا 111 وليس 110 أو115؟ بسيطة؛ لأنّ وضع رقم عجيب كسعر لسلعة عجيبة يعطي الانطباع بأنه تم حساب السعر في ضوء معطيات معينة «ما تخرش ميّه».
.. وهل حمل الناس السلاح في جنوب السودان والصومال والشيشان وأفغانستان إلا تعبيرًا عن النقمة من الجوع والفقر؟ هل سمعت عن حرب أهلية في دولة غنية يسود فيها العدل والمساواة؟ فحتى المظلومون في مثل تلك الدول يعرفون أن عليهم الاحتجاج السلمي المتواصل لتحقيق العدالة الاجتماعية، والأغنياء لا يحاربون، وحتى عندما يقررون خوض الحرب فإنهم يجلسون في دورهم الفخمة ويدفعون للفقراء ليقاتلوا نيابة عنهم. تماما كما تفعل الولايات المتحدة فكلما استهدفت جهة أو دولة شكّلت تحالفا، وتتولى هي شؤون الطلعات الجوية وتترك لحلفائها من الدول (الغلبانة) أمر العمليات الأرضية (طبعا استفادت من «العلقة» الجامدة التي أكلها جنودها في العراق وأفغانستان).
ورغم– بل، وربما لأنني كنت في طفولتي محرومًا من كل شيء ما عدا الأكسجين، فإنني أحاول قدر استطاعتي توفير ما تشتهيه نفوس عيالي، وذات مرة ناشدني أصغرهم بلهجة تحنن قلب الكافر أن أصطحبهم إلى فندق فخم لتناول بعض المشروبات: الله يخليك لنا يا بابا.. يا حنين يا رائع.. نفسي أدخل فندق خمس نجوم وأشرب ولو كوب ماء.. ودخلت بهم كافتيريا الفندق، وتفاديًا للمفاجآت غير السارة، فقد قلت لأفراد الأسرة: خلونا بس مع المشروبات الغازية.. يعني كولا وأخواتها.. وشربوا الكولا وجاءت الفاتورة، فأصيب قلبي بالفتور أي كاد يتوقف عن الضخ.. زجاجة الكولا الواحدة بنحو ستة دولارات.. أي قيمتها أكبر من قيمة صندوق كولا كامل (24 زجاجة أو علبة) من البقال!
الطريف أن الجرسون الذي أحضر إلينا المشروبات التي كادت تدخلني العناية الفائقة في المستشفى وقف متلكئا عندما دفعت له المبلغ المطلوب وهو يحسب أنني سأمد يدي إليه ببقشيش.. ولولا أنني أكره العنف لصفعته! بعدها «توبة». حقيقة الأمر أن عيالي أدركوا أن المسألة «غير مستاهلة» لتعريض والدهم لنوبة قلبية أو جلطة، بالطلب منه السماح لهم بشرب نفس الماء الملون المتوافر في كل الأكشاك غير المرخصة من قبل البلدية بريال واحد، بخمسة وعشرين ريالاً في محل يزعم أنه مارشال المحلات ويدعي أن هناك خمس نجوم على كتفيه.
لا لاستفزاز الأغلبية (3)
مازلت أتكلم عن الفقراء الذين يتعرضون للاستفزاز ولو غير المتعمد، وخاصة عندما تكون هناك أقلية تعيش في العلالي، وتمارس البذخ والبطر، بينما الغالبية تكابد وتجاهد من أجل اللقمة وملابس تكفل ستر العورة، وسقوف وجدران تقي من الآثار المباشرة للحر والقر.
في أحد ضواحي عاصمة عربية، دخل مدرس السجن بعد ضبطه وهو يسرق خروفًا من زريبة تخص أحد الجزارين، وكان مربي الأجيال المنوط به تعليم الصغار وغرس الفضائل فيهم قد تعرض لضغوط لا طاقة له بها من زوجته وحماته لشراء خروف لعيد الأضحى، وكان راتبه لا يكاد يغطي ضروريات الحياة من سكن وطعام بسيط، فهو مدرس تربية رياضية، وليس له دخل إضافي من الدروس الخصوصية مثل غالبية المدرسين، وهددته زوجته بالهجر ما لم يرفع رأسها وسط أهل الحي ويأتي بخروف بمناسبة العيد، وكانت تعرف أن زوجها قليل الحيلة، ولكن كل ما عناها من الأمر هو أن يسمع الجيران مأمأة (صوت) الخروف، قبل حلول العيد ثم يرونه وهو يتعرض للذبح ليعرفوا أنها «بنت عز».
عيد الفداء مناسبة دينية يستذكر فيها المسلم كريم الخصال ويتجنب كريه الفعال، ويتذكر المعاني النبيلة للتضحية، وأن التضحية قد تكون أحيانا بالمظهر الاجتماعي إذا كانت ستعصم الشخص عن الوقوع في الإثم، وتلك الزوجة كانت مستعدة للتضحية بقوت العائلة لعدة أشهر لتتفشخر بالخروف، ولم يكن يعنيها أن التضحية بكبش ليس فرضا على المسلم، فكل ما كان يهمها هي وأمها أن يعرف الجيران أنهم «مو سهلين».
ولم يجد المدرس المسكين من يقرضه قيمة الخروف، لأنّ من يعرفونه كانوا يدركون أنه سيعجز عن ردّ الدين في المستقبل المنظور (منين يا حسرة وهو غلبان.. حتة مدرس ألعاب؟) فلجأ إلى سرقة خروف الأضحية، و«ضحى» بتعاليم دينه وحريته وسمعته ومنصبه، بعد أن قبضوا عليه متلبسًا، وعامله القضاء كـ«حرامي»، وأصبح له سجل جنائي ملوث لن يسمح له بالحصول على وظيفة مستقبلا، وبالتأكيد فإنّ زوجة ناقصة العقل ترغم زوجها على فعل «المستحيل» من أجل خروف، لن تصبر عليه وهو في السجن ولو لشهر واحد.
تخيل مشاعر أفراد أسرة فقيرة لا يعرفون لبس الجديد في العيد، وهم يقرؤون في الصحف «شكاوى» من انعدام مقاعد في الرحلات الجوية لمختلف شركات الطيران «لأن العديد من العائلات توجهت إلى أوروبا وجنوب شرق آسيا لقضاء عطلة العيد؟».
كنت ذات مساء، في وليمة ضمت شخصيات من عدد من البلدان العربية، ودار الحديث عن ذكريات الدراسة الجامعية وما فوق الجامعية في الدول الغربية، وكان في معظمه عن الضنك والبهدلة لتوفير متطلبات المواصلات والسكن والطعام، وتحدث كثيرون عن وظائف بسيطة التحقوا بها لضمان دخل مادي إضافي، وحكى أحدهم كيف أن أحد أثرياء بلاده زارهم في عاصمة أوروبية، ودعاه وبعض زملائه الطلاب إلى العشاء.
كان من الأثرياء المنفوشين كالطاووس، ويحلو له التباهي بالإنفاق «من دون خشية إملاق»!! وسأل الثري الطلبة المساكين أي نوع من المشروب يفضلون؟ فصمتوا، وتولى الثري بنفسه طلب نوعية مشروب معينة، وكان من يروي لنا الحكاية لا يشرب، ومال عليه أحد مرافقي الثري وقال له إن قيمة الزجاجة الواحدة من ذلك النوع من النبيذ 1500 دولار.
طلب الرجل ثماني زجاجات دفعة واحدة، وجلس صاحبنا يحسبها 8 في 1500 تساوي.. عندك صفران و8 في 5 يساوي أربعين.. لا حول ولا قوة إلا بالله، 12 ألف دولار؟ انتهز صاحبنا فرصة غفلة الثري ومن معه وسرق زجاجة ووضعها في حقيبة يده البائسة، وحكى لي كيف أنه نجح في تهريب زجاجة نبيذ، ثم سار بها في زقاق مهجور، و«طااااخ»، فجرها على الرصيف، وشعر بالانتشاء (ولحسن حظه لم يكن هناك دواعش في ذلك الزمان وإلا لجلب عليه صوت انكسار زجاجة الخمر الويلات).
jafabbas19@gmail.com