أعود للكتابة عن ملف سد النهضة مرة ثانية، وأنا تنتابنى خواطر متناقضة، منها ما هو إيجابى يحثنى على ضرورة الاستمرار فى القيام بواجبى الوطنى من توضيح بعض الحقائق التى قد تكون غائبة عن متخذى القرار، وأيضاً لمكاشفة المواطنين بالأحداث الجارية دون تجميل أو مواربة، وخواطر أخرى سلبية تجعلنى أتردد فى الكتابة فى هذا الملف لما لاقيته من بلاغات وشكاوى ضدى من بعض المسئولين لمجرد مخالفتهم فى الرأى، ولكشفى سلبيات المفاوض المصرى وتعرية المستور. وكالعادة ينتصر عندى شعور الواجب على شعورى بالامتعاض لتجاهل المسئولين النصيحة ولتصميمهم على إهدار المزيد من الوقت على مباحثات لا طائل منها. ورؤيتى الشخصية أنّ مسار المباحثات الحالى بخصوص سد النهضة قد مات إكلينيكياً، ولكن ما زال بعض المسئولين المصريين يعملون على إحيائه بالصدمات الكهربية وتزويده بالمحاليل فى محاولات فاشلة لن تجدى، فالميت مات وانتهى وأصبح واجباً ستره ودفنه، ولا ننتظر حدوث معجزات. ومحاولات الإحياء البائسة تأتى من بعض المسئولين لإصرارهم على استمرار هذا المسار الفاشل هو لأطول وقت ممكن سواءً لعدم إدراكهم للتداعيات الحقيقية لسد النهضة على مصر، أو نتيجة لخوفهم من الفشل وتداعياته على أنفسهم قبل أن يكون على القضية. والحقيقة المرّة أنّ كل يوم نهدره على هذا المسار العقيم، فإننا نهدر معه فرصاً مصرية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه فى هذا الملف شديد الخطورة على الأمن القومى المصرى. والفشل فى المباحثات ليس وليد اليوم، أو الأمس، بل منذ شهور طويلة مضت وكان نتيجة طبيعية لعدم وجود رؤية حقيقية لأبعاد الملف وتعقيداته، وللأخطاء التفاوضية والمهنية المتعددة التى ارتكبها المفاوض المصرى فى هذا الملف، منها التنازل عن شرط وجود خبراء دوليين فى اللجنة الثلاثية مما حول اللجنة إلى حلبة للصراع بين الدول الثلاث دون وجود الرأى الحيادى والفاصل فى هذه النزاعات، ومنها أيضاً التنازل عن إجراء دراسات السلامة الإنشائية للسد بالرغم من أنّ تقرير اللجنة الثلاثية الدولية فى 31 مايو 2013 استعرض العديد من الملاحظات الخطيرة على تصميمات السد الإنشائية التى أعدتها إثيوبيا، وأوصى بإعادة هذه الدراسات. وهذه الدراسة لها أهميتها القصوى كورقة ضغط للمفاوض المصرى وخاصة أنّ مخاطر انهيار السد واردة وتداعيات انهياره خطيرة. ومن أكبر الأخطاء المهنية والتفاوضية التى ارتكبها المفاوض المصرى تلك الصيغة التى تم الاتفاق عليها لإعلان المبادئ، والذى فيه اعترفت مصر بالسد، وتغاضت عن النص على التمسك بالحقوق مصر المائية والاتفاقيات التاريخية ومبدأ الإخطار المسبق. بل نص إعلان المبادئ على حق إثيوبيا فى الاستخدام العادل والمنصف فى مياه النيل الأزرق والنيل الرئيسى. وفى هذا الإعلان تم حصر قضية سد النهضة فى إشكالية التخزين المبدئى للمياه أمام السد وسياسة تشغيله، وذلك من خلال دراسات لم ولن تستكمل فى القريب العاجل. لقد أهمل إعلان المبادئ أنّ الخطر الحقيقى من سد النهضة يأتى من حجمه المبالغ فيه وغير المبرر فنياً أو اقتصادياً. ومن ضمن الأخطاء المصرية الأخرى عدم الاحتجاج على قيام إثيوبيا بإقامة سدود جديدة على أنهار باروأكوبو، والنيل الأزرق، وعطبرة، ولم تطالب مصر إثيوبيا بالتصميمات والدراسات البيئية طبقاً لما ينص عليه القانون الدولى، بل حتى لم يكشف المسئولون المصريون عن هذه السدود للرأى العام فى مصر.
والقيادة السياسية لها العذر إذا ما كان لديها بعض اللبس حول عدد من الحقائق الجلية عن سد النهضة وتداعياته على مصر، وذلك نتيجة مباشرة لانتشار الفتاوى والأقاويل والهرتلة والأحاديث التليفزيونية من قبل العديد ممن لا يملكون الخلفية العلمية أو الخبرة الفنية اللازمة ولا يعرفون حتى الفرق ما بين السد والقنطرة. هناك حقائق وارتكازات رئيسية عن تداعيات سد النهضة، والتى دونها قد لا تستطيع القيادة السياسية اختيار المسار الأنسب لتجنيب مصر ويلات هذا السد، وخاصة بعد فشل المباحثات الفنية. ومن أهم هذه المرتكزات ما يلى:
■ أن تداعيات سد النهضة على مصر ستكون دائمة ما دام السد، ولن تكون فقط أثناء سنوات الملء الأول للمياه أمام سد النهضة، كما يدّعى البعض. إنّ المياه التى سوف تخزن أمام سد النهضة سوف تكون خصماً من إيراد النهر الوارد إلى مصر، وبالتالى سوف نضطر فى مصر إلى تفريغ بحيرة ناصر (المخزون الاستراتيجى للبلاد) تدريجياً لتعويض النقص فى الإيراد، ممّا يفرغ معظم مخزون السد العالى، فيضعف دوره فى تأمين حصة مصر المائية ويضعف إنتاجه الكهربائى. ولا توجد فرصة حقيقية لإعادة ملء السد العالى مرة ثانية، وسيكون امتلاؤه جزئياً فقط أثناء سنوات الفيضانات العالية، ولكنّه سيتعرض للتفريغ مرات ومرات أثناء دورات الجفاف المتكررة.
■ عدم صحة ما يزعمه البعض بأنّ تطوير الرى السطحى والتحلية كافيان لتعويض عجز الحصة المائية الناتج عن سد النهضة. إنّ تطوير وتحديث منظومة الرى فى الدلتا والوادى سوف يوفر بلا شك جزءاً من مياه الرى العذبة بدلاً من ذهابها إلى المصارف أو تتسرب إلى باطن الأرض، ولكن هذه المياه هى نفسها التى نستغلها حالياً من خلال إعادة استخدام مياه الصرف وضخ آبار المياه الجوفية فى الوادى والدلتا. أمّا التحلية فهى مكلّفة مادياً وغير اقتصادية للاستخدامات الزراعية، وتصلح فقط لإمدادات المياه للمدن الساحلية والتى يعانى معظمها من عجز فى مياه الشرب.
■ النقص الدائم فى الحصة المائية لمصر الناتج عن سد النهضة سيؤدى إلى بوار مساحات كبيرة من الأراضى الزراعية وانخفاض منسوب المياه الجوفية، وزيادة تداخل مياه البحر فى الدلتا وتملح أراضيها، وانكشاف العديد من مأخذ محطات مياه الشرب والمصانع الواقعة على نهر النيل وفرعيه، وزيادة تلوث مياه النهر والترع والمصارف والبحيرات الشمالية وتهديد الثروة السمكية. وسيؤدى نجاح إثيوبيا فى إنشاء سد النهضة بأبعاده الضخمة إلى تشجيع بقية دول حوض على تنفيذ مشاريع سدود كبرى فى بلادها، وإلى استكمال إثيوبيا لبقية سدودها، وتوسع السودان فى الزراعات المروية على مياه النيل الأزرق خصماً من حصة مصر المائية.
إنّ تبعات سد النهضة كارثية، وسوف تهدد الاستقرار الاجتماعى والسياسى والأمنى للدولة المصرية، ولذلك من الضرورى أن تسرع الدولة بالإعلان عن فشل مسار المباحثات الحالى، والتحرك السريع والقوى على الصعيدين الإقليمى والدولى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ولمحاولة تجنيب مصر والعالم مواجهات إقليمية صعبة فى وقت تشهد المنطقة ما نتعايشه من مكائد ومؤامرات.
محمد نصر الدين علام
الوطن المصرية