لم يتركوا ضفاف النيل، بل ظلوا يتتبعون أثره نحو الشمال، إلى مصر كان المستقر لآلاف السودانيين، جاءوا محملين بآمال العيش فى بلد التاريخ الواحد، وشريان النيل الممتد، ولكنهم فى الآونة الأخيرة لم يجدوا إلا معاناة مستمرة، بدأت منذ ما يربو على 25 عاماً، حيث حملوا على عاتقهم أوزار توتر العلاقة بين البلدين منذ تعرض الرئيس المصرى الأسبق لمحاولة اغتيال فاشلة فى أديس أبابا، ووجه فيها النظام المصرى أصابع الاتهام للنظام السودانى.
«بيرم»: أوراق الإقامة صداع فى رؤوس الوافدين.. والحكومة المصرية لا تنفذ اتفاقية دخول السودانيين دون تأشيرة.. و«إسحاق» لا يعرف لماذا اقتحم زوار الفجر شقته
يعيش فى مصر عدد كبير من السودانيين، يعود تاريخ وجود الجالية إلى بداية القرن الماضى عقب قيام الضابط الإنجليزى «توماس ريك» باستقدام 18 عسكرياً سودانياً لتأسيس سلاح الهجانة فى 1907 فى منطقة عين شمس، واستمر توافد السودانيين لمصر، مع تأسيس سلاح «حرس الحدود» فى منطقة الجبل الأصفر عام 1917، على يد ضباط إنجليز وعساكر سودانيين.
فى منطقة حدائق المعادى، أحد أكثر الأماكن التى تضج بأبناء الجالية السودانية فى مصر، يعيش محمد إسحاق، مع عدد كبير من أشقائه، بعدما خرج من بلدته فى غرب السودان قبل 16 عاماً، للبحث عن لقمة عيش فى القاهرة، ويعمل مصور فيديو لمناسبات أبناء الجالية، ولكن منذ مجيئة وهو يتعرض للكثير من المضايقات.
فى ساعة متأخرة من الليل، وبينما كان يغط «إسحاق» فى نوم عميق، باغتته صرخات زوجاته وأولاده، ووقع طرق ودفع شديد دمر باب شقته المتواضعة فى دقائق معدودة، ودخول عدد لا بأس به من رجال الشرطة، وحسب روايته، جلسوا وبدأوا فى استجوابه، وآخرون أخذوا فى التفتيش فى المنزل، وطالبوه بإحضار أوراق الإقامة والباسبور، وبدأوا فى تفحصها، ثم تركوه وذهبوا.
لم يجد الرجل فى زوار الفجر من رجال الشرطة سبباً واضحاً لهذا الاقتحام العنيف لمنزله، ولم يجد فائدة سوى ذلك الخوف الذى بدا رابضاً منذ تلك الواقعة فى عيون أولاده وزوجاته، لم يعد يأمن للعيش هنا، فرغم ما كان يتعرض له من مضايقة من بعض سكان المنطقة، حسب روايته، ولكن لم يخش يوماً من العيش فى مصر، إلا فى تلك اللحظات التى يصفها بـ«المرعبة».
«على»: أخشى القبض علىّ فى أى وقت.. و«قصر العينى» استقبل مريضاً باعتباره من النوبة.. وعندما كشف هويته السودانية طالبوه بالرحيل: «مش بنستقبل سودانيين»
رغم كل تلك المعاناة اليومية، فإن واقعة واحدة ما زالت عالقة فى ذهنه، وهى التى جاءت بعد أحداث تعدى الجمهور الجزائرى على الجمهور المصرى خلال مباراة كرة قدم بين المنتخبين أقيمت فى الخرطوم، حيث خرج الرجل نحو عمله، مستقلاً المترو، وبمجرد دخوله إحدى العربات حتى نزل عليه وابل من الشتائم والسباب له ولبلده، واتهامه بتحمل السودان مسئولية الأحداث، وتعدى الأمر لمحاولة التعدى عليه بالضرب من جانب عدد من الركاب، ولكن اضطر للهروب والنزول فى أقرب محطة لينجو بنفسه من تلك المعركة التى لا ناقة له فيها ولا جمل.
يقارن «إسحاق» ما يلاقيه خلال عيشه على الأراضى المصرية، وما يجده المصريون من معاملة فى السودان، ويقول إن السودانى إذا تشاجر مع مصرى فى الخرطوم وتطور الأمر إلى الذهاب لقسم الشرطة، لا تخرج المشكلة إلا لنتيجة واحدة هى سجن السودانى من شهر إلى ثلاثة شهور تأديباً له حتى يتعلم كيف يعامل المصرى، فى حين يتوجه سودانى فى القاهرة لأقرب قسم شرطة للشكوى من مصرى لا يجد أى اهتمام، ولا ينوبه سوى فيض من الاستجواب عن الإقامة وعمله.
على إحدى مقاهى منطقة أرض اللواء بالجيزة، التى تعد إحدى مناطق وجود الجالية، يجلس حسام بيرم بجسده النحيل، يحتسى كوباً من القهوة، يعيش فى مصر منذ مولده، ويحمل بين طيات «باسبوره» إعفاء من الإقامة، ولكن يقول إن أوراق الإقامة تعد صداعاً فى رأس كل سودانى فى القاهرة، حتى ذلك الإعفاء الذى يحمله، لم يعد يصدر، يعيش الكثير من السودانيين الوافدين إلى القاهرة من بعد حادثة أديس أبابا بأوراق إقامة مؤقتة عليهم تجديدها على فترات محددة.
ويقول «بيرم» لـ«الوطن»، إن الإقامة إحدى الحريات الأربع التى نصت عليها الاتفاقية الموقعة بين مصر والسودان عام 2004، ولكن تلك الاتفاقية تنفذ فقط فى السودان ولا تنفذ منها الحكومة المصرية أى شىء، بل يقول إنها حبيسة الأدراج، مجرد ديكور يزين العلاقة المشوهة بين النظام المصرى والنظام السودانى، وأن تلك الاتفاقية تكفل للسودانيين دخول مصر دون تأشيرة، وبالمثل المصريون فى السودان، ولكنها تنفذ فقط فى السودان ولا يدخل السودانى الأراضى المصرية إلا بتأشيرة.
«عوض»: السودان ساعد مصر فى استعادة طابا بتقديم الخريطة النادرة لترسيم الحدود.. التى توجد منها نسختان فقط واحدة فى الخرطوم والثانية فى بريطانيا
لا يجد «بيرم»، الذى يعمل مديراً لموقع صوت الجالية السودانية فى مصر، أن السودانيين كانوا يتمتعون بالكثير من الامتيازات قبل حادث أديس أبابا، رغم التحسن التدريجى على مدار 25 عاماً، ولكن ما فقدوه من مميزات لم يعد مرة أخرى، رغم الكثير من القرارات الحكومية المصرية التى صدرت لتحسين أوضاعهم ولكنها ظلت حبراً على ورق.
«بيرم» الذى تخرج فى جامعة القاهرة قبل أربعة أعوام، كان يدفع مصاريف كليته بـ«الجنيه الإسترلينى»، رغم أن طلاب الجالية قبل الحادث المشئوم كانوا يعاملون معاملة الطلاب المصريين، ولكن تغير الأمر، وأصبح يعامل الطلاب السودانيون معاملة الأجانب، دون النظر للعلاقة بين البلدين.
وتابع الشاب العشرينى، أن الإعلام المصرى يعد أحد أهم أسباب الأزمات التى يتعرض لها السودانيون، حيث يعانى من جهل شديد بالسودان والعلاقات القديمة بين البلدين، ودوماً يجد هجوماً عنيفاً على السودانيين ولا يجد مبرراً أو أى داعٍ له، وأن هذا الهجوم يصل إلى درجة التحريض فى بعض الأحيان، وينتقل إلى رجل الشارع المصرى ويخلق حالة من تأجج الوضع بين السودانيين والمصريين.
إلى جانبه يجلس محمد على، جاء من السودان قبل عامين لتلقى العلاج، وطبع على تأشيرة الخروج «لا يصرح له بالعمل»، طالت مدة العلاج، يدفع «الشىء الفلانى» فى أحد المستشفيات الخاصة، ويقول إن الحكومة المصرية أصدرت قراراً بدفع السودانيين 10% فى بعض المستشفيات الحكومية، ولكنه لا ينفذ إلا من خلال «واسطة كبيرة»، ولا تعترف به تلك المستشفيات، بل يصل الأمر فى بعض الأحيان إلى طرد السودانى بمجرد معرفة جنسيته، مشيراً إلى أن قصر العينى طرد أحد أقاربه، بعدما استقبله ظناً منه أنه نوبى، وبمجرد الكشف عن هويته طالبه الطبيب بالرحيل قائلاً: «مش بنستقبل مرضى سودانيين».
يعيش «على» فى مصر طيلة عام ونصف دون أوراق رسمية، بعد انتهاء مدة الإقامة المصرح بها، لا يستطيع العمل، وخطواته محسوبة، ويعيش فى قلق خوفاً من القبض عليه فى أى وقت، ولا يستطيع الرحيل إلى السودان دون استكمال علاجه الذى طال نظراً لحالته الصعبة المضطربة، ويحاول طوال الوقت عدم الكشف عن هويته فى العيادات الطبية والمستشفيات الخاصة، يتركهم يظنون أنه نوبى، لا يعرفهم بهويته السودانية: «لو عرفوا إنى سودانى الكشف اللى يبقى بعشرة هيبقى بعشرين.. وممكن بـ100».
محمد عبدالمجيد، فى مصر كان المولد والمعاش، وهو ما مكنه من الحصول على إعفاء من الإقامة الذى فتح له الطريق للعمل فى مصر فى أحد مكاتب المحاسبة، ولكن ذلك الطريق لا يكون دوماً مفتوحاً لأبناء الجالية السودانية وخاصة ممن جاءوا إلى مصر بعد عام 1995، حيث منع إصدار الإعفاء من الإقامة وتأشيرتهم دوماً تكون ممهورة بختم «غير مصرح له بالعمل»، رغم أن المصريين يعملون فى السودان دون أى أوراق، تطبيقاً لاتفاقية الحريات الأربع بين البلدين.
«عبدالمجيد» يقارن بين وضع السودانى قبل عام 1995، حيث المحاولة الفاشلة لقتل «مبارك»، وما بعدها، ويقول إن السودانى كان لديه بطاقة تموين شأنه شأن المصرى، وفقاً لما يسمى بطاقة التكامل التى تطبق المساواة فى معاملة السودانى والمصرى فى البلدين على حد سواء، وفق اتفاقية التكامل بين البلدين التى وقعها الرئيس السادات والرئيس السودانى جعفر النميرى، حيث أصدرا قراراً بإصدار بطاقة وادى النيل عوضاً عن جواز السفر، لتسهيل وتيسير الانتقال، كما عملت تلك الاتفاقية على دعم التواصل بين الجامعات والشباب والطلاب والهيئات والنقابات والفئات باعتبار التواصل الشعبى يدعم ويؤمن الانتقال السلس والمثمر لتكامل شطرى وادى النيل.
أحمد عوض، بطول قامته وجسده الضخم، يجلس داخل «دار السودان»، فى شارع شريف بوسط البلد، واحدة من أكبر 30 جمعية سودانية فى مصر، التى يترأس مجلس إدارتها، ويعود تاريخ إنشائها إلى الستينات، وتعد المرتكز الشعبى الرئيسى للجالية فى مصر.
يجلس «عوض» الذى يتقلد منصب نائب رئيس مجلس إدارة الجالية السودانية، ومن خلفه صور لرؤساء الجمهورية الذين تعاقبوا على حكم السودان، وصورة بالأبيض والأسود للجالية فى الثلاثينات، ويقول إن مصر يدخلها يومياً 2000 سودانى للسياحة العلاجية، وإن هناك مفهوماً خاطئاً لدى الأمن فى التعامل معهم، ويدمر لمصر السياحة العلاجية التى تدر الكثير من الأموال.
«عوض» الذى عمل أبوه فى الشرطة المصرية، وشارك فى تأمين مدينة السويس خلال حرب 1973، يشير إلى وقائع القبض العشوائى على السودانيين فى مصر وخاصة الوافدين لتلقى العلاج: «الطبيعى أن إللى جاى يتعالج يكون معاه دولارات»، ويشير إلى أقرب حالة تعامل معها قبل أيام، حين ألقت الشرطة القبض على سودانى وشقيقه من أمام أحد محال الصرافة.
وتابع «عوض» أن الأخوين جاءا لعلاج شقيقهما، الذى تصل فاتورة علاجه فى أحد المستشفيات الخاصة إلى 50 ألف جنيه أسبوعياً، نظراً لخطورة حالته، وتوجه أحدهما لاستبدال بعض الدولارات من مكتب الصرافة، ولكنه فوجئ بالقبض عليه وتوجيه تهمة الاتجار فى العملة له، دون النظر إلى حالة شقيقه، ودون البحث والتحرى بدقة: «قبض بدون فهم»، ليست حالة واحدة ولكن حالات كثيرة تعامل فيها الأمن المصرى دون فهم لطبيعة وجود الشخص المقبوض عليه ولا الغرض من وجوده فى مصر.
ويسرد «عوض»، الذى سرح الشيب فى رأسه، تاريخ العلاقات المصرية الممتدة التى يحفظها عن ظهر قلب، ويقول إن الجيش السودانى وقف إلى جوار الجيش المصرى بقوات قادها الرئيس الحالى للسودان عمر البشير فى حرب أكتوبر، وإن السودان كان سبباً فى عودة طابا إلى مصر، بعدما قدم الخريطة النادرة لترسيم الحدود فى المنطقة، والتى لم يكن فى العالم كله منها إلا نسختان واحدة فى السودان وواحدة فى إنجلترا.
ويرفض أن يؤثر حادث كـ«أديس أبابا» على علاقة الشعبين، مطالباً بضرورة وضع العلاقات السياسية بين الأنظمة جانباً والنظر بعين الأخ لشقيقه، رافضاً الانتهاكات المستمرة التى يتعرض لها السودانى فى الشارع المصرى، ويخشى الرجل زيادة الغضب السودانى مما يضر بمصالح المصريين فى السودان وهو ما قد يزيد من تأجج الوضع القائم.
لا يختلف وضع أبناء جنوب السودان، الدولة الحديثة التى انفصلت فى يوليو 2011، عن السودان، عن مشاكل أبناء الشمال، حيث عاشت «بخيتة أنجلو» ابنة جنوب السودان، تسعة أيام دون طعام داخل أحد زنازين قسم دار السلام، بعدما اقتحمت الشرطة منزلها وقبضت عليها هى وشقيقها، فقد أتت إلى القاهرة قبل ستة أشهر لمتابعة شهور حملها عند أحد الأطباء والولادة المتوقع أن تكون متعثرة، حيث نصحها الأطباء فى السودان بالتوجه لمصر والولادة هناك حتى تكون تحت إشراف طبى.
فوجئت «بخيتة» فى ساعة متأخرة من الليل بتدمير قوات الشرطة باب منزلها وتفتيشه وطلب أوراق الإقامة وبمعرفة أن إقامتها قد انتهت قبض عليها وشقيقها، وألقى بهم فى السجن، لم تجد السيدة طيلة التسعة أيام التى قضتها فى الحجز إلا الألفاظ النابية التى يعامل بها الضباط السودانيات: «كانوا بيقولوا لنا مليتوا البلد وقرفتونا وشتيمة وقلة أدب كتير» وعدم توفير أى طعام لهم: «لو ماكنش حد يجيبلك أكل من بره الحجز مش هيسألوا فيك».
لم تبرح «بخيتة» موضعها فى السجن إلا بعد إصابتها بآلام الولادة: «سابونى أمشى عشان لو حصل حاجة مايتحملوش مسئولية الجنين إللى فى بطنى»، ولم يفرج عن سودانى ممن قبضوا عليهم فى تلك الحملة سواها، من جملة عدد 24.
«قسمت محمد» بالتوب السودانى، وبشرتها السمراء، تجلس على أريكة منزلها المتهالكة، فى منطقة حدائق المعادى، وتقول إنها تعيش فى مصر منذ عام 2005، تقول تعرضت للتحرش فى الشارع، الذى وصل إلى تمزيق ملابسها، وسرقة حقيبتها، وضربها حتى سقط رضيعها الصغير «شوت» من يدها، وأصيب على أثر ذلك الحادث بضعف فى عصب العين.
توجهت «قسمت» إلى قسم الشرطة لتحرير محضر بالواقعة، ولكن الضابط رفض، وماطل فى تنفيذ رغبتها: «حسسونى أنى مش بنى آدمة وأستحق أعمل محضر بالحادثة»، واستهان بقضيتها: «أكتر حاجة وجعتنى أنهم محسوش باللى حصل لى وحصل لابنى»، ولكنها ظلت تحاول من قسم إلى آخر تحرير محضر بالواقعة لعلها تأخذ حقها ولكن دون جدوى
كتب : محمد أبوضيف
الوطن المصرية
*الصورة اعلاه
شباب الجالية السودانية فى مصر يتحدثون لـ«الوطن»