في 25 يوليو 1990 جرى حديث بين السفيرة الأمريكية السابقة في العراق أبريل جلاسبي، والرئيس العراقي الأسبق صدام حسين.. لم يكن حديثا عاديا وروتينيا بين رئيس دولة وسفير دولة أخرى، إذ كان لذلك اللقاء ما بعده، وسواء أعطت خلاله واشنطن “الضوء الأخضر” لبغداد لغزو الكويت كما زعم طارق عزيز وزير خارجية صدام أو غير ذلك، كما نفت جلاسبي بعد زهاء العقدين من الزمان في مقابلة صحفية في 16 مارس 2008، فإن الغموض حمّال الأوجه ظل وأداة سياسية ماضية للدول الكبرى.. الثابت في ذلك اللقاء أن جلاسبي نقلت “رسالة صداقة” من الرئيس الأمريكي حينها جورج بوش الأب، إلى الرئيس صدام والذي رد على هذه الرسالة بمثلها، لكن صدام تجاهل قولها: إن واشنطن “لن تعذر أبداً تسوية الخلافات بأي طرق غير سلمية”.. ومن بعد ذلك مهدت حماقة غزو الكويت للغزو الأمريكي للعراق والقضاء على صدام. اليوم تتصدى تركيا لجبروت روسيا بينما حلفاؤها في الناتو بقيادة واشنطن يمعنون في سياسة الغموض، في ذات الوقت تستشيط موسكو غضبا على إسقاط أنقرة لطائرتها، بل تتوعدها بالويل والثبور وعظائم الأمور، في حين أن الصراع والتعقيد الذي يلف المنطقة أكبر بكثير من أن ينظر للأزمة بأنها مجرد اشتباك بين روسيا وتركيا، فهناك فيل في الأفق بينما تحاول روسيا طعن ظله. التاريخ يقول إن تركيا دخلت الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء في 1945 كبادرة حسن نية. كذلك واجهت تحديات مع اليونان في قمع المد الشيوعي، وبعد الحرب برزت مطالب الاتحاد السوفياتي بقواعد عسكرية في المضائق التركية، مما دفع الولايات المتحدة إلى إعلان مبدأ ترومان في عام 1947، لضمان أمن تركيا واليونان، وأسفر عن تدخل للجيش الأمريكي واسع النطاق، ودعم اقتصادي. قد يكون الوقت مبكرا للحديث عن حرب عالمية ثالثة طرفاها الرئيسيان روسيا والصين من جانب والولايات المتحدة وحلف الناتو من جانب آخر، إلا أن أول الحرب كلام كما قالت العرب قديما، والكلام وربما أكثر من الكلام قد شاع اليوم في هذه المنطقة الملتهبة. اليوم يطالب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تركيا بالاعتذار بعد إسقاطها مقاتلة “سوخوي 24” على الحدود السورية. في المقابل يرفض الرئيس التركي رجب أردوغان الاعتذار ويقول إنه لن يعتذر لـروسيا، مطالبا إياها بالاعتذار على انتهاك المجال الجوي التركي. حالة الغضب الروسية قد تشير إلى إجراءات روسية انتقامية تجاه تركيا، لكن المشكلة هل ستتحمل أنقرة وحدها عبء مواجهة موسكو إن لم يعلن الناتو صريحا وقويا بما يكفي لصالح تركيا؟.. صحيح أن الناتو عقد اجتماعا طارئا بطلب من تركيا، لكن ذلك ليس كافيا لتطمئن تركيا، رغم أن الأمين العام للحلف سبق أن دعا روسيا في الخامس من أكتوبر الماضي إلى الاحترام الكامل للمجال الجوي للحلف الأطلسي وتجنب أي تصعيد للتوتر مع الحلف. بيد أن كل ذلك يأتي في إطار سياسة الغموض الشائعة. وتعتبر المقاتلة الروسية التي أُسقطت هي أول طائرة تسقطها دولة تابعة لحلف الناتو خلال 63 عاما الماضية، إذ كانت آخر مرة يسقط الحلف طائرة روسية عام 1952 خلال الحرب الكورية. تبقى الإشارة إلى أن محور الخلاف الدولي هي الأزمة السورية، فحين تفجرت الأزمة السورية في مارس 2011، تبنت روسيا موقفا رافضا لإسقاط نظام بشار الأسد قائلة: إنه صاحب السيادة والشرعية، ووقفت سندا دوليا له، فمنعت تبني أي قرار ضده في مجلس الأمن الدولي، وعارضت إزاحته بالقوة، بل حذرت تركيا باستمرار من دعمها للمعارضة السورية المسلحة. وتطور الموقف التركي عقب اشتداد المعارك بين القوات النظامية السورية وكتائب المعارضة واقترابها من الحدود التركية، حيث دعت أنقرة الناتو لنشر صواريخ باتريوت كإجراء دفاعي احتياطي، وهي الخطوة التي رفضتها موسكو ورأت أنه لا مبرر لها. وجاء التوتر الأكبر بين البلدين حين تدخلت روسيا عسكريا إلى جانب النظام السوري، وبدأت في 3 سبتمبر الماضي بشن غارات جوية على مواقع المعارضة السورية المسلحة المدعومة من أنقرة. لقد كانت تركيا على الدوام مركز قوة في المنطقة ولا تتوانى في تبني سياسة الذراع الطويلة لحماية مصالحها خارج الحدود ولم تجرؤ القوى الأخرى على اعتراضها، لكن هذه المرة فإن الأمر يبدو مختلفا جدا.. ففي 20 يوليو 1974 غزت تركيا قبرص ردًا على دعم المجلس العسكري اليوناني للانقلاب على نظام الحكم في قبرص. وانتهت العملية العسكرية بانتصار تركيا، وإعلان استقلال جمهورية شمال قبرص التركية على شمال قبرص في 15 نوفمبر من عام 1983.