* قد تكون الأزمة التي عاشها بعض السودانيين في مصر خلال الأسابيع الماضية خيراً، أو كما يقول المثل العربي (رب ضارة نافعة)، على الأقل فإن الضغط الشعبي الكثيف على الحكومة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية وتناول الإعلام السوداني الناقد لسلبية الحكومة تجاه الأزمة، أرغمها أخيراً على الابتعاد عن هذه السلبية والتحرك مع السلطات المصرية لحماية حقوق السودانيين في مصر، بل ودفعها إلى تذكر حلايب (المنسية) ورفع شكوى بشأنها إلى مجلس الأمن ـ حسب إفادة وزير الخارجية أمام المجلس الوطني، وهو أمر كان من المفترض يحدث منذ وقت بعيد إذ أن الدولة التي تتخلى اليوم عن شبر واحد من أرضها، لا يستبعد أن تتخلى غداً عن كل الوطن!!
* الأرض ليست مجرد تراب وصخور وبحار، وإنما هي عرض وسيادة وكرامة قبل أن تكون أي شئ آخر، وهي مقدسات لا مجال للعبث بها مهما كان الخصم قريباً أو بعيداً، ومهما كانت الظروف والأحوال سيئة وغير مواتية، لذا كان لابد أن تسعى الحكومة ومنذ الوهلة الأولى وبشتى الطرق القانونية والدبلوماسية والمشروعة لاستعادة (حلايب) وأهلها العزيزين علينا، ولا بد أن تواصل السعي بكل جدية حتى يتحقق الهدف الغالي. يكفي أننا فرطنا في (حلفا) وأغرقناها وهجرّنا أهلها وأٍسكناهم وادٍ غير ذي زرع، ودفنا كنوزنا الأثرية وحضارتنا تحت الماء مقابل ملاليم (12 مليون دولار) لم تغطِّ حتى الصرف على عمليات التهجير وإعادة التوطين، فهل نأتي مرة أخرى ونفرط في غيرها، ثم نهيل التراب على رؤوسنا ونقعد نبكي عليها؟!
* نعم، (رب ضارة نافعة)، وقد يكون ما حدث فرصة لتصحيح الأوضاع المقلوبة مع إخوتنا المصريين، والجلوس معهم بهدوء للوصول إلى نهج مشترك للتعاون والتفاهم يقوم على الندية والاحترام المتبادل والمصلحة المشتركة، بعيداً عن العواطف والاستعلاء والخنوع والكراهية، خاصة مع الأوضاع المعتمة التي يشهدها الإقليم، بل كل العالم والمتمثلة في انتشار الإرهاب والدسائس والمؤامرات التي تسعى لزرع الفتن وتقطيع الأوصال، مما يتطلب الحرص على انتهاج سياسات تأخذ بالحكمة وتنأى عن الشر وتبعد عن التآمر بدون أن تفرّط في مصلحة الوطن والشعب!!
* وهي فرصة أيضاً لفتح كل ملفات السودانيين المعتقلين بالخارج.. كل الخارج، وحسناً فعلت الحكومة بفتح ملف السودانيين المعتقلين في الجزائر ونجحت في استصدار قرار من السلطات الجزائرية بإطلاق سراحهم وعودتهم للخرطوم بأقرب فرصة، ونأمل أن تنجح في مبادرتها لإطلاق سراح الشيخ علي بيتاي المعتقل في تشاد بأسرع ما يمكن، وأن تضع على رأس أجندتها الزميل الصحفي الحر وليد الحسين المعتقل منذ أربعة أشهر بالمملكة العربية السعودية الشقيقة، وتسعى لإطلاق سراحه وحماية حقوقه وحقوق كل السودانيين بالخارج وتوفير العون والحماية لهم، كما تفعل كل الحكومات الحريصة على حقوق وسلامة مواطنيها مهما اختلفوا معها في الرأي أو عارضوا سياساتها أو حتى ناصبوها العداء.. وإن لم تحمهم دولهم فمن يحميهم؟!
* على الحكومة أن تفهم أن السيادة الحقيقية للدولة تكمن قبل كل شئ في إحساس المواطن بأن له دولة تحميه وتدافع عن حقوقه في أي مكان وزمان، مهما ابتعدت بينه وبينها المسافات أو اختلفت الآراء، وأنها قادرة على الحركة بسرعة الصاروخ لحمايته إذا حدث ما يستدعي ذلك، وبدون رسوخ هذا الإحساس في نفس المواطن، فإن سيادة الدولة تبقى صفراً كبيراً في دفاتر الحسابات الدولية، وستظل أي دولة مهما كبرت، خانعة وصاغرة وصغيرة في نظر نفسها ومواطنها والعالم الخارجي، لا تجيد شيئاً سوى البكاء في منازل الرجال !!
* وليد الحسين على قوائم الانتظار.. فماذا أنت فاعل يا وزير الخارجية؟!
الجريدة