بعض السياسيين عندما يختفون، تُحبس أنفاس الساحة السياسية توجساً من سر هذا الاحتفاء، وعندما يكسرون حاجز الصمت المتطاول يرخي الجميع آذانهم ويشحذون طاقات عقولهم لإدراك كنه هذا الظهور.
بالأمس، وبعد طول غياب وصوم عن الظهور الإعلامي، يعود (بلدوزر) حزب الأمة والعمل المعارض حفيد الإمام “المهدي” والسياسي المثير للجدل “مبارك الفاضل المهدي” للساحة السياسية عبر مؤتمر صحفي حاشد بأهل الإعلام وقيادات وكوادر حزب الأمة والأنصار، احتضنته دار أبيه بشارع البلدية، ولم يغفل “مبارك” بدهائه ومعرفته بخبايا الحزب والأنصار أن يتوسل لأهدافه ومساعيه برمزية بيت “المهدي” ، فأجلس عن يساره ابن عمه ونجل آخر أبناء السيد “عبد الرحمن”، “الفاضل أحمد المهدي”. الرجل كعادته- ورغم أنه مجردٌ الآن من أية صفة تنفيذية داخل حزب الأمة- إلا أنه وبمقدرته الفائقة على صنع المواقف السياسية بدا مستعداً لإثارة ما يشبه الانقلاب داخل حزبه ، وتحفيز كل مثيرات الحساسية السياسية لدى ابن عمه وغريمه اللدود رئيس الحزب الإمام “الصادق المهدي”، بل ومضى الرجل أبعد من هذا ليكشف عن أنه رغم الغياب الظاهري ظل منغمساً في الراهن السياسي، وقادراً على تقديم مبادرات لإزالة الاحتقانات في مختلف قضايا الوطن، واضعاً رسائله في بريد كل الأطراف السياسية الداخلية والخارجية المعارضة والحاكمة.
{ استخدام سلاح القواعد
ظلت القضية المركزية لـ”مبارك الفاضل” منذ حل حزبه السابق (الإصلاح والتجديد) قرباناً للعودة لحزب الأمة القومي ، الذي غادره عقب اتفاق “جيبوتي” وقيادته تياراً منسلخاً عن الحزب ومشاركاً في الحكومة، هي قضية توحيد تيارات الحزب كافة داخل حزب الأمة القومي الذي يقوده “الصادق المهدي”، لكن ظلت المحاولات كافة لإدماج “مبارك” وحزبه المحلول في مؤسسات الأمة القومي تبوء بالفشل بسبب ما يراه “مبارك” بأنه تعنت من قبل “الصادق المهدي” الذي يبدو متخوفاً من طموحات ابن عمه غير المحدودة بعد انعدام الثقة بينهما.. اليوم وعبر مؤتمره الصحفي طرح “مبارك” ـ الذي يحلو لمناصريه تسميته بـ(البلدوزر)ـ ما يشبه الانقلاب على مؤسسات الحزب القائمة التي ينزع “مبارك” ومناصروه عنها الشرعية، كاشفاً عن التوافق بين عدد من قيادات وكوادر الحزب وتياراته المختلفة على تشكيل (هيئة سياسية شعبية لتوحيد وإعادة بناء الحزب)، ينتقل من خلالها الحوار حول توحيد الحزب من الصوالين المغلقة إلى وعثاء سوح القواعد في مختلف الولايات، في ما سماه (حوار المصالحة والوحدة والتغيير) وصولاً لعقد مؤتمر عام للمصالحة وإعادة البناء في ذكرى تحرير الخرطوم 26 يناير المقبل في بيت الإمام “المهدي” بأم درمان لإقرار الوحدة والمصالحة ومراجعة دستور وهياكل وبرامج الحزب. وهو أمر لا يُتوقع أن يجد الطريق سالكاً لدى أجهزة الحزب القائمة، التي لن تعدم في القواعد من يناصرها، الأمر الذي ينبئ باحتمال دخول الحزب في صراع جديد، وهي أجواء مواتية لـ(البلدوزر) الذي يجيد اللعب في مثل هذه الأجواء والملاعب.
{ “الصادق” في وجه قذائف ابن عمه
لم يكن وارداً أن يتحدث “مبارك” في محفل إعلامي دون أن يمر بذكر ابن عمه وغريمه اللدود “الصادق المهدي”، فبعد أن اتهمه بتوفير الحماية لمؤسسات حزبية غير شرعية، لم يكن صعباً هذه المرة أن ينال “مبارك” من “الصادق” ومن (صلابته القيادية) ،مستغلاً بدهاء بقاء “الصادق” خارج البلاد في ظل ما تمر به البلاد والحزب من أوضاع محتقنة، فقد ذهب للتأكيد على عدم جدوى بقاء قائد سياسي خارج وطنه لإنجاز (25%) فقط من العمل السياسي، الذي يحتاجه وطنه وحزبه ـ حسب تعبيره ـ تاركاً (75%) من العمل داخل البلاد ، وألمح “مبارك” بجلاء إلى أن “المهدي” اختار المنفى خوفاً من الاعتقال، وقال: (لا عذر للسياسيين أن يبقوا في منفى اختياري حتى لو كانوا معرضين للاعتقال)، وأضاف: (مهمة القادة السياسيين الصمود وسط قواعدهم حتى يعينوهم على أن يصمدوا)، وخاطب “مبارك” ابن عمه صراحةً: (بقاءك بالخارج لا معنى له، فالقائد يبقى مع قواعده رغم المخاطر)، وسخر من مبررات بقاء “الصادق” خارج السودان وعدّها مؤشراً لوجود أزمة داخل الحزب وقال: (العمل الذي يباشره الصادق بالخارج يمكن أن يقوم به أي عضو، وهذا دليل أزمة ، لأن عملاً مثل هذا يقوم به الرجل الأول بالحزب).
{ إصدار شهادة قرب نهاية عهد الإمام
انتقالاً من حالة الهجوم على “المهدي”، يحاول “مبارك” أن يبدو متسامحاً مع ابن عمه، لكن في ثنايا حالة التسامح هذه يبدو “مبارك” وكأنه ينعي أيام قيادة “المهدي” (الثمانيني) للحزب وكيان الأنصار ، ويقول صراحة في رسالته التي وجهها لـ”المهدي”: (نحن بكل صدق راغبون، والصادق في ختام حياته السياسية، أن يختمها وكل مكونات الحزب والأنصار موحدة حوله)، ومضى “مبارك” ليرسم صورة لنفسه في ثياب الزاهد في منصب “المهدي”، وغير الراغب في مغادرته، لكن اشترط ما يعلم أن “المهدي” لن يقبله لتصبح محاولة زهده معلقة بالهواء بلا سيقان ، وهو ما يتضح في قوله: (ما عندنا مانع في أن يستمر “الصادق” رئيساً مدى الحياة، لكن فقط نريده أن يقبل بالمؤسسية ووحدة الحزب)، وهي مطالب ينظر لها “الصادق” بتشكيك ورفض كبيرين، و”مبارك” يعلم ذلك. ويسدل “مبارك” الستار على هذا المشهد الدراماتيكي بعبارة هتافية صفق لها الحاضرون من أنصاره: (مبارك والصادق لو ما عايزين وحدة يرفدوهم الإتنين.. فهم ذاهبون والحزب باقٍ).
{ سد الفرقة وعجز أجهزة الحزب
يحاول “الفاضل” تبرير سعيه لخطوة توحيد وإعادة بناء الحزب متجاوزاً المؤسسات القائمة بنزع ثوب الشرعية عن هذه المؤسسات، التي قال إنها تجاوزت أجلها الزمني منذ آخر مؤتمر عام، بجانب رميها بسبة الضعف والعجز عن الفعل السياسي، قائلاً: (لو كان إخواننا الذين يقودون أجهزة الحزب قادرين يسدوا الفرقة ما كنا تحدثنا عن مشاكل)، وأضاف مؤكداً: (الأجهزة ما قادرة تسد الفرقة ومنشقة على نفسها ودورتها انتهت، وحلت نفسها بمبادرة من الرئيس ولا زالت موجودة).
{ “مبارك”.. عباءة بألوان الحكومة
لن تنتطح عنزان في كون “مبارك الفاضل” أحد أبرز معارضي النظام رغم مشاركته قبل سنوات في الحكومة، قبل أن يغادرها مغاضباً، لكن ذات القدر من القناعة يتوفر في كونه براغماتياً ، ويستغل المتغيرات والتقلبات لاعتلاء المواقف التي تخدم مواقفه السياسية.. تتبدى هذه القراءة بوضوح في موقف الرجل الذي أعلنه تجاه قضايا الحرب وقضية دارفور، متبنياً مواقف أقرب لمواقف النظام منها للمعارضة، ففي حين تستغل المعارضة بأطيافها كافة حالة التخويف من الحرب التي تراها مستعرة ومتزايدة، يعلن “الفاضل” بكل وضوح أن الحرب في السودان انتهت (بالتعادل السلبي)، بحيث فشلت الحركات المسلحة في الوصول لمراكز اتخاذ القرار في الخرطوم، وعجزت بالمقابل الحكومة عن اقتلاع الحركات من مناطق تمركزها، في ظل تعامل المجتمع الدولي مع حقيقة انتهاء الحرب في السودان، مشيراً إلى أنها مجرد حرب استنزاف، وحذر من أنها ستضعف الوطن وليس الحكومة وحدها. لكن قد تبدو المفاجأة أكثر في رسالته التي ألقى بها في بريد حركات دارفور متحدثاً بطريقة متسربلة بذات ثياب النظام، لدرجة أن بعض الصحفيين تساءلوا: هل هذا “مبارك الفاضل” أم “أمين حسن عمر”؟ وبدأ الرجل حديثه بتأكيد أن الأوضاع تغيرت في دارفور، واصفاً الحركات بأنها احتجاجية قائمة على العصبية، ولا تجمع بينها أفكار، ما أدى إلى تشرذمها، وانتقل إلى التعبير عن موقف متطابق تماماً مع رؤية النظام حول التفاوض مع حركات دارفور، قائلاً: (القضايا السياسية العامة تعالج في الإطار القومي، ولا سبيل للحديث عن الدوحة أو غيرها ، ثم يتم الاتفاق الدارفوري حول قضايا دارفور).
{ مفاجأة الحكومة الانتقالية
تكاد أن تكون أطياف المعارضة كافة المحاورة والرافضة للحوار تجمع حول طرح خيار ومطلب الحكومة الانتقالية قبل بدء الحوار، أو بمجرد بدايته، لكن “مبارك الفاضل” يبدو مصراً في هذا المؤتمر على رسم خطوط الدهشة والمفاجأة على وجوه حلفائه في المعارضة، فالرجل بدا ساخراً ، لأبعد حد من طرح خيار الحكومة الانتقالية، وعدّه طرحاً سابقاً لأوانه وقفزاً على المراحل واستعجالاً للنتائج، وقال ساخراً: (هذا الطرح كأننا نأتي بالسرج قبل الحصان، وعلينا أن نأتي بالحصان أولاً)، وأضاف: (دائماً مستعجلون للنتائج فمطلب الوضع الانتقالي سابق لأوانه)، ونصح قوى المعارضة بعدم تعجل الوصول لهذا المطلب ، وقال: (هذا التعجل يجعلنا نوقف الاستجابة للوصول لاتفاق حول إجراءات بدء الحوار، ويخيف الطرف الآخر).
{ نصائح لـ”البشير” والنظام
ظل “مبارك” كلما ذكر اسم الرئيس “البشير” يستبقه بكلمة (الأخ الرئيس) على غير عادة أهل المعارضة، وبدا “مبارك” حريصاً على نجاح مبادرة الحوار الوطني، وحرص على تذكير “البشير” بأنه صاحب فكرة الحوار ، وأن عليه أن يحرص على إنجاحها، لافتاً إلى أن نقاط الخلاف ، ليس صعباً التوافق حولها، ونصح “البشير” بالقبول بما تطرحه المعارضة والوساطة الأفريقية، قائلاً: (عليك قبول المؤتمر التحضيري دون عزل لجهة ،وقبول الوساطة الأفريقية كضامن للحوار حتى ينتقل الحوار للخرطوم)، وأتبعها بنصائح للنظام محذراً من أن البلاد تعيش في الزمن الإضافي، وأنه لم يتبق زمن للمناورات. ولفت نظر الحكومة إلى أنها ،وإن تغافلت عن الأزمة السياسية، فلن تستطيع تغافل الأزمة الاقتصادية التي تخنقها، وتخنق المواطن، ونبهها إلى أنه لا سبيل لرفع الحظر الاقتصادي والمصرفي بمجرد الحوار مع أمريكا والاتحاد الأوروبي وقال: (حتى العلاقات مع الخليج والسعودية لن تحل مشاكل الحظر المصرفي والحصار الاقتصادي)، وأكد أنه لا سبيل لتجاوز هذه الأزمات دون حوار وحلول سياسية، تفضي إلى تحول ديمقراطي وحكومة تعددية.
{ انتقاد الوساطة الأفريقية
وجه “مبارك” انتقادات صريحة لمنهج الوساطة الأفريقية في مفاوضات “أديس أبابا” بين الحكومة والحركات المسلحة، وعدّ طرح الوساطة لقضايا وقف إطلاق النار والمساعدات الإنسانية بجانب القضايا السياسية مجتمعة، منهجاً خاطئاً وقال: (لو كانت الوساطة سارت خطوة خطوة، وبدأت بوقف الحرب ولو لثلاثة أشهر، لاستطاعت من بعد تسهيل الاتفاق حول القضيتين الأخريين)، مؤكداً انتهاء عهد الوصول لحلول جزئية، بعد أن رفع المجتمع الدولي والإقليمي يده عن دعم هذا النوع من الحلول.
المجهر السياسي