تعذيب أحد السودانيين لا يهم من بنوا بيوت الأشباح.
مؤامرات التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وراء الحكاية
بعد الإطاحة بمرسي مصر عدوة للنظام السوداني وما عدا ذلك مناورات!
كان الجميع يعلمون مصير سانتياقو نصار ذي الأصول العربية، حين قرر توأمان قتله انتصارًا لشرف الأسرة، كان كل من حوله يحذره، كانوا يعلمون النبأ قبل وقوعه؛ إلا هو وحده الذي كان يجهل ما يحاك ضده في الخفاء، ونصار المعني هو بطل رواية
“سرد أحداث موت معلن” للكبير قابريال قارسيا ماركيز. وهكذا يبدو لي حال علاقة السودان ومصر، يتربص بها البعض، يريدون إيصالها إلى الدرك الأسفل لخدمة أجندة قوى سياسية لا تهمها مصالح الشعوب في المنطقة.
وأزمة “اعتقال سودانيين وتعذيب أحدهم في قسم عابدين في وسط القاهرة” ليس أمرًا مهمًّا عند النظام الإسلامي الذي بنى بيوت الأشباح لتعذيب السودانيين أنفسهم/ ن، مستخدمًا كل وسائل الإذلال، ومارس سياسات الإقصاء والإزاحة بهدف تمكين المشروع الإسلامي، مثلما دفع النظام الناس دفعا للهجرة، مكرهين لا كأبطال.
ووفق تقرير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في شهر يناير الماضي فقد لجأ (666) ألف سوداني إلى خارج البلاد خلال عام واحد، وبلغ عدد النازحين داخليا (2.192.830) بينما بلغ إجمالي عدد السكان المثيرين لاهتمام مفوضية الأمم المتحدة (2.909.668) وجاء السودان كرابع أكبر مصدّر للاجئين في العالم، بعد سوريا وأفغانستان والصومال.
ونصار المعني هو بطل رواية “سرد أحداث موت معلن” للكبير قابريال قارسيا ماركيز. وهكذا يبدو لي حال علاقة السودان ومصر، يتربص بها البعض، يريدون إيصالها إلى الدرك الأسفل لخدمة أجندة قوى سياسية لا تهمها مصالح الشعوب في المنطقة.
ومع هذا النوع من التفكير، فإن كل من يشتري بضاعة “الخوف على كرامة السودانيين” يكون خاسرًا، وليس ببعيد عن الأذهان شهر أغسطس 2014؛ مع تصاعد وتيرة الانفلات الأمني في ليبيا ووصولها لمرحلة اللا دولة، حين سارعت الدول المحترمة في تنفيذ عمليات إجلاء رعاياها، لكن الحكومة الإسلامية في الخرطوم أعلنت أنها لا تخطط لإجلاء السودانيين من ليبيا التي تشهد عنفًا مستمرًّا ومتصاعدًا، وقال حاج ماجد سوار رئيس جهاز السودانيين العاملين بالخارج وسفيره السابق بليبيا: “إن التقارير الواردة من وزارة الخارجية تفيد أن معظم السودانيين بخير وأنهم غير مستهدفين من أي جهة. ومع أنهم بخير يكشف ذات الرجل عن وفاة 18 سودانيا عند سقوط صاروخ على مسكنهم!”. وقال: “ما عدا هذه الحادثة فإنهم بخير وإنهم غير مستهدفين وهم محل احترام وسط الليبيين”. هكذا هو الخير!!
وقبل أسابيع قال سفير السودان في إثيوبيا عثمان نافع: “هذه المسألة لا تشغل تفكيرنا الآن كثيرًا، فلدينا تفكير استراتيجي، نحن لا نريد أن نخسر إثيوبيا بسبب مسألة الحدود، وصدقني هذه الحدود لا تمثل أولوية الآن وليست مشكلة”، وكانت المسألة المعنية: مقتل 25 مواطنًا بواسطة ميليشيات تقراي الإثيوبية، باعتراف الخرطوم نفسها وسيطرة إثيوبيا على قرابة مليون فدان بولاية القضارف الشرقية على الحدود المشتركة للبلدين!
وللمفارقة فإن ذات الحكومة التي لا تريد توترًا مع إثيوبيا بسبب مقتل 25 مواطنا، واحتلال مليون فدان، تعلن خوفها على السودانيين في مصر! وتوزع منشورات احتجاجًا على ما اعتبرته استهدافا لهم في القاهرة، مع خلو البيانات من أية معلومات، وحشوها بعبارات إنشائية معمَّمَة، وتحذيرات للسودانيين من خطورة أن يهبطوا مصر ليتسوقوا في أسواقها، ويستشفوا في مستشفياتها، ويتسامروا في مقاهيها، ويأكلوا “من ثومها وبصلها”.
شخصيًّا لم تعجبني الحكاية، فتقصيت بطريقتي، سألتُ سودانيين يعيشون في القاهرة، وأصدقاء وصديقات مصريين عما يدور وراء الكواليس؟ وللأمانة فقد أخبرني شخص واحد عن تعرض الشقة التي يقطنها لمداهمة ليلية، وحين سألته عن المعاملة، قال لم تكن هناك خشونة، كل ما فعلوه أخذوا جواز سفري، وسلموه للضابط رئيس الفرقة المداهمة، وطلبوا مني النزول لمقابلة الضابط المعنيّ.
وأخبرني مصدري بـ”أن الضابط سأله عن تاريخ وصوله إلى القاهرة، ثم رجع الضابط جواز السفر وانصرفت القوة”.
أما الآخرون ممن يسكن بعضهم/ن وسط البلد، والعجوزة، وفيصل، وعين شمس، وأرض اللواء، والمعادي، فقد أكدوا أن الحكاية لم تكن عملية ممنهجة، ولا عملا موجها ضد السودانيين، وأنهم لم يتعرضوا لأي مساءلة، ولم يقابلوا أي دورية، أو مداهمة، مع أنهم يتوجهون إلى وسط البلد، بانتظام، ثم أشاروا إلى أن معلوماتهم/ت، تؤكد أن المستهدفين كانوا يضاربون في العملات الأجنبية خارج الصرافات والبنوك، وأن عدد المعنيين كانوا سبعة أو ستة أشخاص، وبالفعل ظهرت قصة الحاج زكريا الذي تعرض للضرب في قسم عابدين في وسط البلد، وبغض النظر عن أسباب إلقاء القبض على الرجل، إلا أن عملية الضرب والإهانة تظل مرفوضة تمامًا، ويجب أن تخضع للتحقيق، ولا بد من احترام كرامة الإنسان وإن كان “متهمًا” فعلى من يدّعي ذلك أن يسلك طريق القانون، كما يجب أن يتم التحقيق كذلك في مقتل (15) مهاجرًا سودانيًّا على الحدود مع إسرائيل.
ومع ذلك فإن الأزمة الحالية ليست أزمة “تعذيب واعتقالات وإهانات” مثلما تروج السلطات وأجهزتها الأمنية في الخرطوم، بل هو ما طفا فوق السطح من جبل الجليد العائم، فالأزمة مرتبطة بالتوجه الأيديولوجي للنظام الإسلامي وعلاقته بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين وبعض اللاعبين الإقليميين، بهدف إضعاف مصر عن طريق فرض طوق عزلة إقليمية ودولية، وباستهداف الاقتصاد المصري عن طريق المضاربات في العملات الأجنبية، لخفض قيمة الجنيه، مثلما تشكل “بعض” عمليات المضاربة وليس أكثرها بالطبع؛ غطاءً لوصول الأموال إلى عناصر جماعة الإخوان المسلمين المصنفة “إرهابية” في مصر.
إن الخرطوم لم تنس “خيبتها” في سقوط نظام مرسي، وإن الإسلاميين الذين تظاهروا من “أجل الشرعية” التي داسوها في السودان! قد وحد الأمر الإسلاميين ممثلين في جناحي “المؤتمر الوطني” بزعامة البشير، و”المؤتمر الشعبي” بزعامة الترابي، وسوف يبذلون كل جهدهم من أجل محاصرة الحكومة المصرية، نعم سيتبعون “تكتيكات المناورة”، بما في ذلك “التهدئة” ساعة الضعف، حتى تحقيق هدفهم الاستراتيجي، وتحاول الخرطوم حاليا جني ثمار تقاربها مع المملكة العربية السعودية، بعد مشاركتها في “عاصفة الحزم” كما تجتهد في الاستثمار في تراكمات قديمة داخل النفوس ارتبطت بالخديوية والاستعمار المصري التركي، وأزمة حلايب وشلاتين، ومواقف الحكومات المصرية السابقة الداعمة للأنظمة المستبدة على حساب الشعوب السودانية، والعمل على وضع السودان “حديقة خلفية” دون الغوص في لب القضايا، وندعو هنا إلى حوار شفاف وهادئ وموضوعي، يركز على المستقبل أكثر من الحاضر، دون إغفالنا المؤثرات الراهنة على المشهد السياسي، يؤسس لعلاقة صحية بين شعوب وادي النيل مهما تغيرت الأوضاع السياسية. أقول ذلك وفي الذهن الصور النمطية المرسومة لكل طرف عن الآخر، وسلوك البعض الاستعلائي، على طريقة توفيق عكاشة الذي لا يتورع عن أن يعلن على الملأ: “لا توجد دولة اسمها السودان، يجب عودة جنوب مصر إلى شمالها”، ومع أن عكاشة يدخل ضمن جماعة المهرجين في برامج “التوك شو”، فإن حديثه يجد بيئة خصبة لنمو نزعات عدوانية، أو استعلائية، لتنتقل الحملة من عداء المؤسسات الرسمية إلى عداء الشعوب، هذا ما نحذر منه، ما يخطط له تنظيم الإخوان المسلمين، والذي بعد أن وجّه الضربة القاتلة للدولة في السودان يخطط باستمرار لضرب الدولة في مصر، لأنه لا يعترف بحدود الجغرافيا.
هو المسكوت عنه في الخرطوم، وما تحاول السلطات السودانية الالتفاف عليه، فهي موقنة تماما أن مصر بعد سقوط جماعة الإخوان والإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي، ليست دولة “شقيقة” بل دولة عدوة، ويجب محاصرتها بعدة وسائل وعدة اتجاهات من سيناء وليبيا إلى الجنوب، مع اتباع “تكتيكات” التهدئة واستغلال ورقة مياه النيل وسد النهضة للحوار والمناورة وكسب الوقت.
إن الخرطوم سوف تستمر في محاولاتها بطرق مختلفة، ولن تتنازل عن مشروعها الإسلامي، أو الحضاري، ولن تدع مصر تعيش في سلام، بل تعد الخطة لاغتيال العلاقة على طريقة موت سانتياقو نصار، بطل رواية “سرد أحداث موت معلن”.
النحرير