يخشى كثير من المسلمين من أن تكون الاعتداءات الإرهابية التي ضربت باريس في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، بداية فاصلة لعصرين مختلفين تماما بين المسلمين والغرب. وبالفعل صار بعض الغربيين يُبشرون بتاريخ جديد، يحددونه بما قبل وما بعد الاعتداءات، مثل تاريخ ما قبل وما بعد الميلاد. فقد كانت الصدمة عظيمة، إذ انتقل الموت والخوف إلى أهم مدينة أوروبية وأكثرها رمزية للغرب. ولا استبعد أن يكون هناك من يقارن الحدث بتفجير القنبلة النووية الأولى في هيروشيما. فالاعتداء كما رآه بعض المسؤولين الفرنسييين، وأولهم الرئيس أولاند، هي إعلان حرب على القيم التي تمثلها فرنسا: الحرية، والمساواة، والإخاء.
وتوحي هذه العبارة بأن العالم قد دخل حربا حضارية يشنها «المسلمون». ويمكن بسهولة أن نقول إن بعض المسلمين يساهمون في أن تتحول فكرة صدام الحضارات التي أطلقها (صامويل هنتنغتون) في صيف عام 1993 لأول مرة في فصلية» السياسة الخارجية». ويمكن اختصار نظريته تلك في كلمات قليلة، وهي: «أن الثقافة والهويات الثقافية والتي هي على المستوى العام هويات حضارية، هي التي تشكل أنماط التماسك والتفكك والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة».
من الملاحظ أن عددا من المفكرين الإسلاميين قد سبقوا (هنتغتون) في تداول معاني ودلالات الفكرة ولكنهم لم يصلوا درجة طرح نظرية. بل قد تكون فكرة (الرسالة الخاتمة) أو (خاتم المرسلين) إشارة مبكرة لـ (نهاية التاريخ)، النظرية التي روّج لها (فوكوياما). ولكن المسلمين مع إحساسهم بالتخلف والدونية، والذي عبّر عنه تساؤل (شكيب أرسلان) الشهير في عنوان كتابه: «لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟» وكان من غايات المصلحين الأوائل عند احتكاكهم المباشر مع الغرب، ضرورة « اللحاق بالغرب». ولكن الأجيال اللاحقة كانت أكثر طموحا وثقة في الذات، مما جعل رؤيتها تحمل ضمنيا فكرة صدام الحضارات، والتي يتفوق في نهايتها الإسلام بالضرورة. فالفكرة القطبية الخاصة بالمفاصلة وجاهلية القرن العشرين، تضع العالم غير المسلم في خانة الجهل، والتخلف، والظلامية. وقد جاء (الأخوان المسلمون) بفكرة أن الأمة الإسلامية سوف تستعيد «قيادة العالم إلى الخير» أو ما دعوه «أستاذية العالم». كما أن البعض يجتهد في تفسير الآية: «كنتم خير أمة أخرجت للناس»، منزوعة من سياقها، لدعم فرضية تفوق المسلمين وفي بعض الأحيان يتحدث كثير من الإسلاميين عن غزو المسلمين والإسلام للغرب، موردين دلائل ساذجة مثل ازدياد عدد المعتنقين للإسلام من بين المساجين من الزنوج الأمريكان.
يرى (هنتنغتون) في صدام الحضارات بأنه سوف تتساند أوروبا وأمريكا معا، أو تتساند كل منهما علي حدة. وهذه هي مقدمات الصدام الأكبر، الصدام الكوني «الحقيقي» بين الحضارة والبربرية، أو بين الغرب والباقي. ويقرر أن الثقافة لا السياسة ولا الأيديولوجيا، ستكون لها الأهمية الحاسمة في عالم اليوم والغد. وهو يكرر مزاعم الغرب في العالمية والتي تجعله في صراع مستمر مع الإسلام والصين الكونفوشيسية خاصة. ولكن لتجنب الصدام ـ حسب رأيه – لابد من نظام كوني أو عالمي يقوم على تعاون الحضارات فالحل في التعددية الثقافية للعالم. وهنا السؤال: هل المسلمون قادرون ومستعدون لقبول هذا الحل؟ وهل تناسبهم شروطه؟ فقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين هجوم العولمة والتحديث الاقتصادي، وحينها كان أمام الآخر غير الغربي، اختياران أمّا التكيف مع التحديث والعلمنة، أو العودة إلى اصول الدين وبعثه من جديد لأنه أثبت جدواه في المرة الأولى. وفضّل أغلب المسلمين الخيار الثاني لأنه أسهل، وتصاعدت في مواجهة خيار التكيف، موجة ما عُرف بـ» الصحوة الإسلامية»، والتي كانت متزامنة مع الفورة النفطية وتزايد أسعار النفط. وتهيأ المناخ ـ عموما – للأصوليات ليست الإسلامية فقط، بل كل المتدينين في العالم أحسوا بخطر العولمة على ثبات العقائد، مع اختلاف طرق الدفاع. ومنذئذ أنتج المسلمون أصوليات مضادة مؤكدة لنظرية صدام الحضارات معلنة عن عدوانيتها للغرب و»أذنابه» في مجتمعاتهم أيضا. ولم يستطع المسلمون حل معضلة تأسيس دولة حديثة دون أن تكون « غربية»، وهذا ما نجحت فيه اليابان فقط.
كان لتفاقم صدام الحضارات وتحوله لعنف وإرهاب ضد الغرب تداعيات داخلية خطيرة تمثلت في صراع حول الإسلام بين المسلمين أنفسهم. وشرع بعض المسلمين في مخاطبة الغرب بلغة صالحة بيننا، تتحدث عن «الإسلام الصحيح» أو»الإسلام الوسطي». ولا أدرى كيف نستطيع أن نقنع الآخر أن ما يراه ليس هو الإسلام الصحيح. وقد يطرح الآخر عددا من الاسئلة المحتملة علي المسلمين، مثل: لماذا تخفون علينا الإسلام الصحيح ولا تمارسونه في التعامل العادي؟ أي لماذا لا تقدمون الإسلام الصحيح؟ ولماذا يتفوق الإسلام غير الصحيح أو المنحرف، ويجد النتشار والشهرة (حتى لو كانت سيئة السمعة) بين الكفار والمسلمين المستنيرين بينما ينزوي الإسلام الصحيح؟ هذه مجرد مبررات للاستهلاك المحلي لأنها غير قادرة علي تغيير صورة المسلمين في العالم الخارجي. وينطبق الشيء نفسه على فكرة الوسطية، فالحديث عن وسطية الإسلام لا يتعدى دوائر نخب قليلة العدد وضعيفة التأثير، ولا يتعدى قاعات المؤتمرات المترفة، ولا يخرج عن أوراق ووقائع الندوات. فنحن لا نلمسها في الواقع حيث يتنامى التعصب ويتراجع التسامح والتعايش بسبب فتاوى «دعاة» يحرّمون مصافحة المسيحي أو تهنئته بأعياده. ونفصل الجنوب السوداني باعتباره عقبة في سبيل قيام دولة إسلامية نقية، ونعامل الأقباط كمواطنين من الدرجة الثانية.
أضاع كثير من المسلمين وخاصة الشباب المولودين في الغرب، فرصة الاندماج الثقافي أو التثاقف الايجابي. ويرجع هذا الفشل لأسباب ثقافية وطبقية وأيديولوجية. ففي فرنسا مثلا، السؤال:هل يقوم النظام التعليمي بعملية التنشئة والتربية بصورة كاملة أم تنافسه الأسرة والأقران والجامع في الحفاظ على الثقافة الأصلية وترسيخها بوسائل الخاصة أخرى؟ ويعيش المهاجرون في أسوأ حالات الانفصام والثنائية غير المحسومة لهاجس « الهوية الثقافية». أما السبب الاجتماعي ـ الطبقي، فهو التهميش الاقتصادي والفقر والعزلة مما يجعل المهاجر محروما من ثقافة الجمال والفن. لذلك استهدف الإرهابيون مواقع تجلب البهجة والفرح. وهنا يطل صراع نفسي آخر، بين ثقافة الحياة (الإيروس) وثقافة الموت والفناء (التِتانوس). ويختار كثير من المحرومين ثقافة الموت مع تغيير مسمياتها لتربط بالجهاد، والشهادة، والفردوس.
يعيش المسلمون أصعب فترات تاريخهم الحديث، فالاقتتال الداخلي يحرق أهم دولهم، والخوف يحيط بأغلبها ويشلها عن الحركة وإنجاز التنمية، فجل الموارد يلتهمها الأمن، والشباب يهاجر جغرافيا مغامرا في المجهول، أو روحيا للإرهاب أو المخدرات. والأزمة الاقتصادية والفقر ينخران في كيان معظم الأسر. فالفوضى تزحف بخطى حثيثة والخيارات تقل، ولم يعد الحديث عن المستقبل يشغل بال المسلمين. فالمسلمون المهاجرون موعودون بمعاداة سامية جديدة، فاليمين وجد فرصته ليبرر كراهيته للأجانب وخاصة المسلمين، فتتصاعد شعبية الأحزاب اليمينية بسرعة صاروخية. فقد كانت أوروبا متنفسا لضيق الحياة في بلادهم، ومن بعد الآن ستغلق أبواب الوصول لأوروبا، وستعاني أسر مسلمة عديدة كانت تعيش من تحويلات الخارج. لقد تصادمنا مبكرا مع الحضارة الغربية، ليس علي مستوى الشعارات بل علي أرض الواقع. وفي بداية التسعينيات، كان هتاف الإسلامويين السودانيين في شوارع الخرطوم: أمريكا قد دنا عذابها!
٭ كاتب سوداني