جعفر الإخشيدي والأسود الدؤلي

أرِد حياض اللغة العربية المرة تلو الأخرى، بل أعتزم التوقف عند هذا الموضوع في الأيام التالية، رغم أنني أعرف تماماً أنني لست من بين أفضل عشرين من الكتاب الذين يجيدون العربية في الصحافة السودانية، وعذري في ذلك كما أوضحت مراراً أن العربية ليست لساني ولسان أهلي (النوبيين).
وأنا سوداني، أي أنتمي الى أحد أفقر بلدان العالم، ولكنني أحبه من كل قلبي، وكان بإمكاني الحصول على جواز سفر بريطاني، في زمن لم تكن فيه حكومة بلادي تسمح بازدواج الجنسية لمواطنيها، فكان علي أن أتخلى عن جواز سفري وجنسيتي السودانية، مقابل ان أصبح من رعايا التاج البريطاني، وبدون تردد اتخذت القرار الذي لم أندم عليه قط: لن أتنازل عن جنسيتي السودانية (وجلب علي ذلك الاتهام بالبله والخبل، وهناك من قال إنني اتخذت القرار الخطأ لأنني من ذوي الحاجات الذهنية الخاصة).
وأحب اللغة العربية، لأنها قدمت لي ما لم يكن الجواز البريطاني سيقدمه لي: الانتماء إلى قبيلة تعداد أفرادها مئات الملايين، بل والزعم بأن المتنبي – وليس كافور الإخشيدي – من أقاربي، بل، والتباهي بأن أول من وضع قواعد النحو العربي، ظالم بن عمرو بن سفيان، اختار لنفسه اسم “دلع” هو أبو الأسود الدؤلي، فلو كان هذا العربي القح، لا يرى بأسا في أن يوصم بالسواد، فلِم لا يجوز لشخص أسود مثلي أن يتباهى بالانتماء الى العرب بالتجنس رغم أن معظم أفرادها يتوهمون أنهم “بيض”.
وأعرف يقيناً أنني أبعد ما أكون عن امتلاك ناصية العربية، ولكنني على الأقل لا أكف عن ورود حياضها بانتظام، لأتقن السباحة فيها بِخُيلاء واقتدار، ولن أكف عن الدفاع عنها، خاصة وأن هناك من يدعون أنهم نسل عدنان وقحطان، يمارسون “التعدين” في مناجم اللغات الأجنبية، ثم يتكلمون ويكتبون عربية مصابة بالقحط.
وما من جهة ألحقت العاهات بالعربية، كوسائل الإعلام العربية في عالمنا المعاصر، بعد أن تسلل إليها ببغاوات عقولها في آذانها، وكتائب من ذوات الثدي، يجلسن على الشاشات ويمارسن اللغو، وهن يستخدمن تضاريس أجسادهن لتعويض عجزهن الفكري والمعرفي واللغوي، ولا أقصد بعبارة “ذوات الثدي” جنس النساء كافة، بل خضراوات الدمن، فجميع بني البشر من الثدييات
كم مرة فُجعت بكلمة “تفاجأت”، وتفريعاتها تفاجأنا وتفاجأتم، من نفر يحسبون أن بناء كلمة “فاجأ” للمجهول يفقدها عنصر المفاجأة، فلا يقولون فوجئت، وفوجئنا وفوجئتم، وأي ذنب جنت كلمة “احتمال”، لتصبح مؤنثة في مجتمع يضطهد الإناث؟ ما العيب فيها حتى تصبح “احتمالية” تقوم مقامها دون سند قانوني أو تاريخي؟ وكيف تتصل على فلان، أو تتصل عليك فلانة؟ هذا قد يكون جائزاً في العامية، ولكن العربي يتصل “ب”فلان وتتصل “به” فلانة.
صار الإعلام العربي يحسب أن الإبداع يعني إتيان “البدع”، فصارت عبارة من شاكلة “موقف كهذا” موضة قديمة، وحلت محلها عبارة “هكذا موقف”، وهي عبارة مجهولة الأبوين، ولأن الوقت عند إعلاميينا من ذهب، ولأنهم يميلون إلى ترشيد الإنفاق، فقد صاغوا كلمة الركمجة لأن “ركوب الأمواج” عبارة كثيرة المفردات، وكان الاتحاد العربي للاتصالات، قد تمخض فولد كلمة هجيناً خديجاً، ماتت سريرياً فور ولادتها، وتلك الكلمة هي “الطبقصلة” لتقوم مقام “فاكس”، وقالوا إن تلك الكلمة اختصار لكلمتي “طبق الأصل”.
وأعتزم عرض بعض الجرائم بحق اللغة، بسرقة بعض ما جاء في كتاب لصديقي الشيخ الدكتور عبد السلام البسيوني، وهو داعية إسلامي وخطاط وخطيب جهبذ، وهو مصري من زفتا، وكان أصدقاؤه من المصريين ينادونه “عبسلام الزفتاوي”، فنبهته إلى أنه لن ينجز شيئاً باسم كهذا، واقنعته بالاعتصام باسم العائلة (البسيوني)، بدلاً من زفتا، والكتاب يتناول تجربته كمصحح لغوي في المجلات والصحف.

Exit mobile version